الأربعاء، 4 نوفمبر 2015

ذات الغمازات


تلك الدمعة المتحجرة في عيني تأبي أن تتحرر فتعتقني، أو تستكين فيهدأ مني البال.. كنتُ أدخن عُلبتي تبغ في اليوم الواحد، ولكني الآن صرت أدخن ثلاث عُلب على الأقل..حذّرني الطبيب قائلاً : لو ظللتَ على هذا الحال ستموت ببطء، فأجبته مازحاً : لست في عجلةٍ من أمري.. لم يبتسم، ودفع إليَّ بوصفته وهو يقول بلغةٍ حادةٍ الاستشارة بعد أسبوع من الآن، ولكن لو لم تمتنع عن التدخين فلا قيمة لهذا الدواء، انصرفتُ غير مكترثٍ، وألقيتُ وصفته في جوف أول حاوية قمامة صادفتني، ثم عدتُ فالتقطتها حين تذكرت السعال الذي يوقظني كل ليلة، فلا أهنأ بنوم..حقيقة الأمر لا توجد لدي أدنى رغبة في الامتناع عن التدخين، أو حتى تقليل عدد اللفافات التي أحرقها، وحين تجولت داخل وجدَاني باحثاً عن سبب شراهتي المتنامية _مؤخراً_ للتدخين رغم الخطر الذي يتهددني، وجدتُ بداخلي رغبة منزوية للخلاص من الحياة، فقد سئمتها وسئمتني، وأشعر أن كل لفافة تبغ أشعلها تقلص من تلك المسافة المتبقية من عمري، تركت سيارتي بجوار العيادة، وترجلت أجوب الشوارع، كل الاتجاهات عندي سواء، بل كل الأيام أيضا، صدقوني أنا لا أعرف إن كان اليوم هو الاثنين أم الثلاثاء ..ربما كان الخميس! ولا أريد أن أعرف فالوقت عندي صار لا يعني شيئا، لا أعرف كيف مضى بي العمر هكذا، فلقد تخطيت الستين على حين غِرّة، كنتُ أعمل ملحقاً دبلوماسياً في وزارة الخارجية، تقاعدت منذ سنة مودعاً حقيبتي المرصعة بالترحال، العمل كان يلتهم جل وقتي، أصدقائي كانوا يسمونني عدو المرأة، وذلك لكوني لم أتزوج، يعتقدون أن هذا قرار اتخذته ولا يعرفون أنه فُرض علي فرضاً، زملائي المتزوجون كانوا دائما ينصحونني بالزواج، وكنت دائماً أشعر أنهم يحسدونني على حريتي، فتزيد قناعتي أنني اتخذت القرار الصائب، ورغم الإشاعات التي كانت تتناهى إلى مسمعي، ورغم أن تلك الإشاعات تمس ذكورتي، وأحيانا تذهب إلى أبعد من ذلك، ولكنها لم تشكل أدنى حافزٍ لتجعلني اتخذ قراراً لست مؤمناً بجدواه..لا أعرف سبباً ظاهراً لعزوفي عن الزواج. مما حدا بي ذات مرة_ لم تتكرر_ أن أذهب لطبيب أمراض نفسية أستشيره، فأراد أن يوحي إلي_ بعد أن سمعني بإنصات _ أن السبب يعود لطفولتي.. حيث تنشئتي بين أم مسيطرة وأب ضعيف الشخصية معها إلى أقصى درجة ..متسلط عليَّ رغم كوني ولده الوحيد.. يسخر من أخطائي، فتكونت لدي عقدة من الزواج، وإيماني بتلك المسببات كما قال الطبيب هو أول خطوة للعلاج الناجع..هذا حدث منذ سنوات بعيدة، ويجب أن أصارحكم أنني لم أقص على الطبيب كل شيء، لم أحك له عن أمي التي كانت تعاملني بجفاء وكأنها أنجبتني من مكرهة، ولدت بحولٍ وحْشيّ في كلتا عيني، فكانت تخجل منى، وتجبرني على ارتداء نظارة قاتمة كلما خرجت بصحبتها، لم يستمر هذا الأمر طويلاً، فقد أجريت جراحة أزالت هذا الانحراف من عيني، ولم يبق له إلا أثراً طفيفاً يجب أن تدقق النظر لعيني ملياً حتى تدركه..اوووه الصقيع بدأ يتسرب إلى جسدي ، وإضاءة الأعمدة واهنة كأنها تحتضر،الشارع شبه خالٍ في تلك الساعة المتأخرة من الليل، رذاذ المطر بدأ في التساقط ما لبث أن يتسارع ليتحول إلى قطرات ثقيلة تنقر الإسفلت الباهت نقرات سريعة فتجلوه، دلفت عائداً إلى سيارتي محتمياً بالمباني، وقفت وأخرجت علبة سجائري ال (ميريت) وقداحتي ال (زيبو) الأثيرة وأشعلت لفافة تبغ رشفت دخانها وأمسكتها بين إبهامي وسبابتي والفلتر للخارج كي لا تنطفئ من المطر المتطاير من الهواء اللافح، اقتربت من مكان السيارة ولكني لم أتمكن من تحديد موضعها، فضغطت على (الريموت) المثبت في المفتاح فأجابني صوتها ووميضها المتقطع وكأنها تقول لي أنا هنا، مر بجواري فوج من الكلاب الضالة يتنابحون، فجفلت فزعاً، ثم عبرت الشارع حيث سيارتي فاخترقت أذني صرخة مدوّية..بحثت عن مصدرها فوجدت فتاة منكمشة أمام الحائط، وأمامها كلب يزمجر متأهباً للهجوم عليها، فالتقطت حجرا وألقيته عليه فأصاب رأسه ففر يعوى عواء متقطعا من الألم، تقدمتْ نحوي فسبقها عطرها الياسميني ، كانت ترتدي قميصا مفتوح الصدر مقلَّم بخطوط عريضة بيضاء وسوداء وتنورة قصيرة سوداء لامع جلدها ، وعيناها تنضحان غواية..قالت:
-شكراً.. لقد أنقذتني
انحنت قليلاً وهي تقولها، فطل نهداها بوقاحة
قلت لها: عفواً واتجهت لسيارتي ..فتحت بابها ..أدرت المفتاح، ثم أشعلت لفافة تبغ، وقبل أن أتحرك وجدت تلك الغانية تفتح باب السيارة دون استئذان وتجلس على المقعد المجاور وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة فلاحت غمازاتاها فزادتها جمالا وفتنة، وقالت: هل تعرف القيادة..ثم ضحكت
منذ أبصرتها أدركت أنها من بائعات الهوى، ولم أك يوما رجلاً يسعى لأي علاقة من تلك النوعية..رغم جولاتي الكثيرة في شتى الدول الأوربية بحكم عملي، تحركت بسيارتي منتوياً أن أقلها بعيدا عن تلك المنطقة المحاصرة بالسكون المخيف، ثم إن المطر ما زال يهطل، والإنسانية تمنعني من التخلي حتى عن عاهرة، دار بيننا حوار طريف ممتع، وأثناء حديثنا جاءتني مكالمة هاتفية من صديق فرنسي، أنهيت المكالمة فقالت لي وهي تسوي أحمر الشفاه عبر مرآة السيارة:ما أجمل لكنتك الفرنسية، هل تعرف أنني أتحدثها بطلاقة، اندهشت فلم أظنها إلا فتاة ليل خفيفة الظل، فحدثتها بالفرنسية مختبرا إياها فأجابتني بفرنسية سليمة ثم عرجت في نصف حديثها إلى الانجليزية، فأجبتها بالانجليزية وأنهيت بجملة باللغة الألمانية، فأجابتني بألمانية شابتها بعض الأخطاء الطفيفة ثم قالت: لغتي الألمانية ضعيفة لم أكمل الكورسات الخاصة بها، ضحكت وأنا أقول لها: فتاة ليل انترناشيونال، وحين سألتها عن سبب امتهانها هذا العمل المشين رغم ما تتمتع به من إمكانات ..سردت لي العديد من المبررات التي لم تقنعني، ولكني لم أعقب..سرقتني بحديثها وطرافتها حتى نسيت ما انتويته ووجدت نفسي اضغط المكابح أمام منزلي، باتت معي تلك الليلة، ورغم جمالها لم أرغب في جسدها ولكني وجدت نفسي أرتمي على صدرها وأبكي.. بكيت كثيرا لا أعرف لماذا ؟ ولكن حملا ثقيلا قد انزاح من فوق صدري، أنقدتها مبلغا من المال، ونمت نوما هادئا، وحين صحوي لم أجدها، ولكني وجدت ورقة مكتوب عليها صباح الخير باللغات الأربع ، وفوق الورقة المال الذي أعطيتها إياه ، فتحت نافذتي سمعت الطيور تغرد تناولت أصيص الياسمين المثبت على النافذة واستنشقت عبيره ..نظرت إلى السماء وبديع منظرها.. يا لجمالها !! منذ فترة طويلة لم أنظر لأعلى..أشعلت سيجارتي الميريت الأخيرة.. سحبت نفسا عميقا ثم ألقيت العلبة من النافذة وخلفها قدّاحتي الزيبو.

ليست هناك تعليقات: