الاثنين، 11 يوليو 2016

خمس صفحات من مذكرات رجل عادي


الأثنين26 نوفمبر 2007 ميلاديا
أظن أنني دهستُ حمامة بسيارتي هذا الصباح .. كانت تنقر الثرى وتقفز قفزات قصيرة في منتصف الطريق ..لم أهدِّئ من سرعتي ليقيني أنها ستفر مُحلّقة قبل أن أصلّ إليها-هذا عادة ما يحدث- ولكنها لم تفعل! تجاوزتُّها ونظرتُ في مرآة اليمين فلم أر لها أثرا..(ربما لم أدهسها وفرَّت دون أن أراها) قلتُ هذا لنفسي وأنا انعطف يميناً متجهاً صوب مَرْأب السيارات الخاص بالمصرف الذي أعمل به منذ أكثر من عشر سنوات..طبيعة عملي تَحُول بيني وبين التعامل مع العُملاء بشكلٍ مباشرٍ إلا عند الضرورة ..حيث مكتبي يقع في الطابق الأخير من المصرف.. أراجع المُعاملات اليومية وأدقق في حركة التحويلات ..لا تكاد تمر عشر دقائق من وصولي إلا وأجد (نادية) فتاة البوفيه تضع فنجان القهوة أمامي..تلقى عليَّ تحية الصّباح وعلى وجهها ابتسامة طازجة..
صباح اليوم أخبرتني زميلتي شيماء - وكأنها تبوح لي بسر عظيم- أن نادية تحبني كثيرا.. حقيقة الأمر كنتُ أدرك هذا قبل أن تحاول شيماء لفت انتباهي، فكل حركات وسكنات نادية تشير بحبِّها ليّ..ابتسامتها وهي تمر من أمامي..كثرة اختلاقها أسبابًا لتدخل مكتبي..تأتى لتسألني: هل أحضر لك شيئا ؟ رغم أن البوفيه به هاتف داخلي يُمكّنني من طلب ما أريد..هي فتاة طيبة وبسيطة ..أتذكّر أول أيام عملها في المصرف.. كانت ترتدي قميصا وبنطالا أسودين، وشعرها فوضوي كأنها خرجت لتوها من مشاجرة نسائية .. مرت بضعة أشهر وبدّلت الأسود بملابس ملونة، ثم بدأت تحسن من هندامها بشكل ملاحظ ..حتى شعرها المجعد بدا جميلاً متناسقاً..أحببتُ لونه البني ورائحة (الشامبو) التي اشتمَّها حين تمد ذراعها لتضع فنجان قهوتي الصباحية أمامي...هي فتاة قليلة الكلام واسعة الابتسامة..تختلف كثيرا عن هدى رفيقتها في البوفيه..هدى تبدو فتاة منكسرة تتعثر في خجلها الزائد، ولكن نادية لديها شموخ لا يتسق مع طبيعة عملها.. شموخ ينأى بها عن الغطرسة..تنثر عبق الألفة فى المكان حين تتجول بين المكاتب المنفتحة على بعضها إلا من حواجز زجاجية منخفضة .. شعور جميل أن ثمّة من يهتم لأمرك، ويحبك بصدق دون مأرب.. أكن لها شعوراً طيباً، بل أشفق عليها كثيرا من هذا الحب..ما أصعب الحب حين يكون من طرف واحد! جربت هذا الشعور في أول سنة من التحاقي بالجامعة، فكنت شغوفا بفتاةٍ لا تبادلني ذات الشعور..حين صارحتها بحبي لها أجابتني أنني مجرد صديق لا أكثر، والقلوب بين يدي الله.. لكِ الله يا نادية تحبينني وتعلمين يقينا أنني مُنصرف عنكِ،ولكن حقاً القلوب بين يدي الله يقلبها كيفما شاء..ربما هي تظن في قرارة نفسها أن فارق المستوى الاجتماعي يحول بيننا، لو تدري أنني أتعجبُ كيف لفتاة عشرينية على قدر مقبول من الجمال أن تحب أرمل أربعيني بائس.. تتسع صلعته ويسطو المشيب على فوديه فيكتسب مساحة جديدة كل حين..كثير من أصدقائي نصحوني بالزواج بعد وفاة زوجتي خاصة أنني أحيا وحيدا، ولكني لا أستطيع أن أتخيل امرأة أخرى تشاركني الفراش وتكتشف تفاصيلي وعاداتي التي بعضها يثير الضحك.. على سبيل المثال أنني ما زلت أطالع مجلات ميكي ..كنت شغوفا بتلك المجلة في طفولتي ، كم تمنيت أن أعيش في مدينة البط برفقة العم دهب وبطوط ..زوجتي كانت تضع تلك المجلات في ركنٍ ناءٍ عن العين من مكتبتي...زوجتي .. كم أفتقدها! أحن لقهوتي التي كنت أرتشفها ورائحة الديتول الذي يفوح من أرضية شقتنا تغزو أنفي..من الغريب أن رائحة الديتول تهيّج ذكرى زوجتي بداخلي ..زواجي بها كان تقليديا مما يصح وصفه بزواج الصالونات ..رشحتَّها لي أمي -رحمة الله عليها- وأنا ارتضيتها.. أهم ما كان يميزها على حد قولها أنها من عائلة محافظة، وبالفعل كانت كذلك معي..محافظة جدا..تحافظ على موعد الوجبات..تحافظ على موعد الاستيقاظ والنوم ..لا توجد أدنى مساحة للتمتع بالعشوائية في حياتنا.. تضع جدولا لكل شيء..كانت منظمة للغاية، تعتني بالنظافة أشد عناية..لطالما اعتقدتُ أنها مصابة بوسواس النظافة ..أظنها كانت تغسل الصابونة جيدا قبل أن تغسل بها يديها..كنت أتهمها بالمبالغة وتتهمني بالإهمال واللا مبالاة..كل هذه الأشياء التي كانت تثير ضجري وسخطي رأيتها جميلة بعد رحيلها ..أحببت زوجتي أكثر بعد فقدانها..ماتت وهي تضع وليدنا الأول بعد عقم استمر إحدى عشرة سنة، ومات هو في جوفها..أيام ويبدأ شهر ديسمبر الذي في منتصفه تماما تتوافق الذكرى الخامسة لوفاتها .
ربما يتوجب عليّ في تلك الساعة من الليل مشاهدة شيئا مضحكا في التلفاز قبل أن أحاول النوم، فالذكريات أثارت الحزن داخلي، ولا أحبذ أن أختم يومي بذكرى حزينة
حتى لا أكون عُرضة للكوابيس.
الثلاثاء 27 نوفمبر 2007م
مرت نصف ساعة منذ دخولي إلى المصرف ولم تُحضِر نادية فنجان قهوتي ..تناولتُ سماعة الهاتف واتصلتُ بالبوفيه . أجابتني هدى...كنت شارد البال حين وضعت أمامي الفنجان حتى كدت أن أطيح به بذراعي
- أين نادية؟

سؤال انفلت مني لا إراديا
- في إجازة مرضية

هذا ما قالته هدى
- مَرضية!! ماذا أصابها؟!

أجابتني والدموع تعرقل عبارتها
- الله يتولاها برحمته

ثم انصرفت باكية
..بالفعل نادية في الأيام التي سبقت غيابها بدت شاحبة جدا وهزيلة..بدأت تلف رأسها بمنديل مزركش بألوان متداخلة ما بين الأخضر الزرعي والأحمر الداكن.. ذكّرني بالذي كانت ترتديه أمي، فأحببته كثيرا..انتبهت للندبة الداكنة التي على جانب عنقها الأيسر، وكانت من قبل متوارية خلف شعرها المجعد..عدت إلى منزلي مشوش البال محزونا....ندبتها الداكنة تلوح أمامي..هذه المسكينة ماذا ألمَّ بها؟!

بعض الاستنتاجات حول طبيعة مرضها تدق ذهني، وحين استرجعت التغيرات التي طرأت عليها ولم أعيرها انتباها في حينها ..خمنت طبيعة مرضها..كم أنا أناني..أظن أن تلك المسكينة كانت تستحق منى بعض الاهتمام..أشعر بالقرف من نفسي حين أتذكر أنني كنت اختلس النظر إلى مؤخرتها ولم أهتم بحالها..وحين كنت اسألها بنبرة روتينية كيف حالك؟ تجيب : بخير..لم تكن بخير مطلقا..
.. شعرت بغياب التركيز لذا قضيت اليوم حريصا على الهروب من أي تكليف..تقريبا لم أفعل شيئا ذا بال هذا النهار..كنت أنظر إلى سلاسل الأرقام التي أمامي على شاشة الحاسوب، ويساورني شعور أنها كائنات عدائية توشك أن تلتهمني..

الأربعاء28 نوفمبرمن عام 2007 ميلاديا
هذا اليوم لم أتمكّن من الذهاب إلى عملي..صحوت متأخرا ..وهذا طبيعي بعد نوبة الأرق التي ألمّت بي مساء أمس فحرمتني النوم..فقد ظللت مستيقظا حتى تملكني الإرهاق فغفوت فوق أريكتي يصارعني الاضطراب والهذيان حتى أنني لا أدرى متى وكيف انتقلت من الأريكة إلى السرير ..وضعت جسدي المنهك داخل حوض الماء الدافئ واسترجعت حلم الأمس..كان حلما مثيرا..ما أجمل الأحلام المبتلة لمن هو مثلي..في السنوات الماضية صحوت مُحتلما أكثر من مرة، غالبا لا أتذكر تفاصيل الحلم الذي يكون قد أفرغ ماء الكبت ..ولكن حلم أمس مختلف تماما ..أتذكر تفاصيله..عشت كل لحظاته وكأنه حقيقة..أتتني زوجتي وعطر الرغبة يفوح من خلاياها..لم تنطق ببنت شفة، ولم تبتسم ولكنها أشعلنني وأطفأتني كما لم تفعل في أشد ليالينا حميمية..بدت غجرية الحضور..كانت مثيرة ومختلفة..أكاد استشعر خمش أناملها على ظهري..لم يكن حلما يشبه الأحلام..هزة النشوة نفضت عن قلبي بعض أدران الشبق الكامن فيه ..هل يعطف الموتى على الأحياء؟ هل يستشعرون احتياجاتهم؟ 
..أذان الظهر كان يرتفع حين اتصلت شيماء تستفسر عن سبب تغيبي... سألتها عن نادية..عرفت طبيعة مرضها ..ذهبت لعيادتها قال لي موظف الاستقبال بالمعهد القومي للأورام : حجرة 65 الدور الرابع..فرحت كثيرا حين رأتني..المرض لم يتمكن من هزيمة جمالها..أبصرتها أجمل من أي وقت مضى رغم هزالها الشديد..لم يكن برفقتها سوى أمها المسنة ..رحبا بي ..أبصرت على الكومدينو بجوارها عبوة زبادي فارغة بداخلها ملعقة ..وبجوار العلبة كتاب ..كانت رواية (القمر وستة بنسات) لسومرست موم ..لأول مرة يدور بيننا حوار لأكثر من خمس دقائق..كم كانت ذكية ورقيقة، بل مثقفة أيضا ..وكأنني ربان سفينة اكتشف جزيرة أحجارها من ذهب وألماس ..قالت لي أنها تخرجت في كلية الآداب قسم تاريخ، وكيف أنها لم تجد عملا يناسبها..بحثت كثيرا عن عمل لترعى أمها المسنة بعد وفاة والدها..إلى أن استقر بها المقام داخل بوفيه المصرف ..قالت وهي تبتسم : لا تستهن ببوفيه المصرف إنه يدر عليّ دخلا أحسن من ثلاثة موظفين حديثي التعيين، ثم ضحكت ضحكة قصيرة منهكة ..علمت من الأطباء أن حالتها خطيرة والورم السرطاني يتمدد في خلاياها .. لم يتطلب الأمر منى أدني تفكير لأقرر أن أكون سندا لها في مواجهة مرضها

الثلاثاء ...4 مارس 2008ميلاديا 
لم تنقطع زياراتي لنادية، وكأنها صارت فريضة لناسك ورع، لا أقول أنني أحببتها..بل اكتشفت أنني كنت أحبها، فحبي لها كان متواريا خلف أكوام من الهموم والكآبة..الحب حالة من العطاء ولم أجد بداخلي تلك القدرة ..ظننت أن الوقت غير مناسب للحب.. أمس دخلت المرحلة الثالثة من العلاج الكيمائي..قال الأطباء لو مرت من أربع مراحل ربما تتعافي..لم أفلح فى محاولتي إقناعها بزواجنا..تقول أن ما يحركني هو العطف لا أكثر ..اليوم كانت في أشد حالات مرضها ..أمسكت يدي بكلتا يديها ثم نظرت إليّ بعينيها الذابلتين وهي تقول: اعلم أنني أحببتك كثيرا..كنت أراك روحا معذبة كم تمنيت أن أزيح عنك آلامك..سامحني أنني سأترك لك حزنا لا تستحقه..صدقني أنا لا أخشى الموت..ولكن أخشى من ترك عجوز حزينة ورائي..تتجرع الأسى ما بقي لها من حياتها..ثم قبلت يدي وسكنت
الخميس 17 يناير من عام 2013 ميلاديا
ربما هذه آخر صفحة أدونها في مذكراتي، سأتخلى عن تلك العادة.. لن أنشغل بتدوين الماضي فالمستقبل ينتظر من يكتبه ..ربما هذا ما عليّ تعليمه لابنتي ..اليوم نحتفل بعيد مولدها الثالث ..هي تشبه أمها كثيرا..أخذت منها شعرها المجعد وابتسامتها الجميلة.ضحكنا حين رأينا ندبة صغيرة داكنة على عنقها الصغير..ربما يتوجب علىّ الآن القيام ومساعدة نادية في تعليق البالونات، كأي زوج يقدّر زوجته.

ليست هناك تعليقات: