الأربعاء، 29 أبريل 2015

فقط حين يكتمل القمر

( إلى روح شهداء شدوان عليهم من الله السلام)
فقط حين يكتمل القمر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أنتم السابقون ونحن إن شاء الله بكم لاحقون.. قالها أبى ونحن نمر بالهوري* أمام جزيرة شدوان، ثم وضع يده على كتفى وهو يقول: بني على كل شبر من تلك الجزيرة ملحمة صنعها المصريون ..حقيقة الأمر سمعت منه تلك الجملة عشرات المرات حتى أكاد أن أنطق معه سيقول الآن : فى ليلة حاضرة القمر كانت الملحمة تكتب سطورها بدماء الأبطال ..ها هو قالها ألم أخبركم آنفا هههه..ما يفتأ إلا ويذكر شهداء شدوان كلما مررنا من أمامها ، أما أنا فلا يقفز في ذهني سوى الريس حربي ..لا أحد فى الغردقة لا يعرف الريس حربي البحار الذى كان يمد الكتيبة المصرية بالطعام والماء فى حرب الاستنزاف..رغم فرض الحصار عليها بجزيرة شدوان من العدو الصهيوني كان يستطيع أن يصل إليهم وسط دانات المدافع..والجميع لا يعرف كيف يمر، وكيف يعود ثم يحتفل مع الرفقاء بالعزف على طنبورته ولعزف الريس حربي على الطنبورة قصة عجيبة فمنذ أن وعيتُ وأنا أسمع عن براعته في العزف على آلة الطنبورة*، يقول الشيخ الهَرِمُ مِسَلَّم الجَهني وهو يشير إلى السماء: حين كان يدق الريس حربي على الطنبورة كانت النجوم يزداد وميضها، وكأنهن يرقصن على نغماته طربا، ما يتردد في الربّعِ على ألسنة العجائز أنه تعلم العزف من مَلِيحة جنية جزيرة شدوان* التي عشقته وتزوجها فسحرت أصابعه، فصار قادرا على إشعال الحظ* بنقرات أصابعه في الأعراس وليالي السمر..وككل شبان الربّع لم اسمع عزف الريس حربي، فقد امتنع عن العزف على الطنبورة منذ أكثر من أربعين سنة ..يقولون أن مليحة غضبت عليه حين سعى للزواج من ابنة عمه، فحرَّمت الأوتار على أصابعه، وحين تناول الطنبورة يوم عُرسه لم يستطع أن يمس أوتارها وكأنها ستصعقه، وانخرط في بكاء متصل..جلبوا له الشيخ شاذلي العارف فقرأ عليه ما تيسر من القرءان، وبعض الأوراد، فهدأت نفسه، وتم العرس، ولكنه صار مربوطا لا يقرب عروسه لأكثر من ستة أشهر ..كلما اقترب منها يراها حمارا بأذنين كبيرين، فينصرف عنها إلى أن أراد الله أن ينفرج الحال..الريس حربي الآن ناهز السبعين، وما زال صلب القامة لا يكبح خطواته القوية إلا وهنا قد أصاب بصره، حتى العصاة التى يمسكها لما يكن يتوكأ عليها ولكنها كانت لهش الكلاب الضالة أثناء ذهابه لصلاة الفجر..الليلة يحين زفاف ثريا أصغر بنياته الخمس وأحبهن إلى قلبه..ثريا بنت العشرين قمر الربع المدلّلة..توفيت أمها عقب وضعها فتعهدنها أخواتها بالرعاية، وسعى أبوها لإرضائها بكل السبل، قالت فضة الدلّالة أن ثريا طلبت من أبيها أن يعزف لها على الطنبورة في يوم زفافها وأقسمت عليه بروح أمها، فانتشر هذا الخبر في الربع بعد أن تقاذفته ألسنة النسوة وأصحاب المساطب..ومَن في الربع لا يتمنى سماع عزف الريس حربي ساحر الطنبورة؟! السعادة كانت بادية على الوجوه ولكن هناك نظرة ترقب كانت تعلن عن نفسها كل برهة ..بدأ الاحتفال بلعب المتيني* وردد الرجال الدور الافتتاحي أول كلامي ندهت المصطفى العالي ... تلم شملي وتجمعني على الغالي ..يا قاعدين كلكم على النبي صلوا ... لولا النبي ما اتبنى مسجد ولا صلوا*) ثم تركوا الساحة للفتيان المتحمسين بدفوفهم ليلعبون الرفيحي* (أول الفال نبدي بذكر النبي يا شفاعة محمد يا قوة علي*) فدبت الحياة في العرس ونزلت البنت ممهورة ترقص بثوبها الأسود الفضفاض وكانت قصيرة القامة نوعا ما فردد اللاعبون(وأنا ودي الحويشي الطويل..التقاصر ما لنا بها) كنا نعلم أن هذا الدور هو دعوة لنزول فتاة أطول قامة إلى الساحة وبالفعل انصرفت ممهورة غاضبة تدب الخطو،ونزلت لطيفة الفارعة ذات القوام الممشوق "والجمل والزين فوقه ..من يحله ومن يقوده*" هذا هو الدور الذي كان ساريا قبل أن تنصرف العيون للريس حربي وهو يتجه لوسط الساحة ممسكا طنبورته العتيقة؛ فسكنت الأهازيج، وتوقف الجميع عن الحركة حتى كادوا أن يتوقفون عن التنفس لو استطاعوا..جلس الريس حربي القرفصاء على الأرض، وجلس الجميع حوله مشدوهين ..هل سيفعلها؟! هذا السؤال كانت تلوكه الأعين..حرك أصابعه يشد العصافير* ليضبط أوتار الطنبورة على المقام المطلوب ..فاحتلت النسوة بجلابيبهن السوداء أسطح المنازل المحيطة بالسامر، فصرن كالتلال المتكدسة خلف بعضها..نظر الريس حربي للجمع الصامت ثم بدأ في العزف...يا الله!!! وكأننا لم نعرف الطنبورة من قبل أو نسمعها! كيف أخرج منها هذى النغمات الساحرة؟!! كل شئ بدا أكثر روعة على صوت طنبورة الريس حربي القمر النجوم النسمات التي تتابعت وكأنها تحتفل معنا..استمر العزف وانتقل الخبر للنجوع المجاورة..الريس حربي يدق على الطنبورة يا عرب..هذا ما صاح به الفتى مروان فهلّت على السامر وجوه جديدة متتابعة.. شيوخ ونسوة وشبان وأطفال..يا لغلاوتك يا ثريا على قلب أبيك..كانت تجلس في هودجها تدمع عيناها فرحا أن لبى أبوها أمنيتها..ثلاثة أيام مروا ولا حديث لنجع جهينة والنجوع المجاورة إلا عن روعة عزف الريس حربي...البعض فسر الأمر بأن مليحة قد عَفت عنه بعد كل هذه السنوات وأعادت إلى أصابعه سحرها ..في صباح اليوم الرابع صحونا على صياح الفتى مروان : الريس حربي اختفى يا عرب ..يومان مرا ونحن نفتش عنه في كل مكان السهول والهضاب والتلال والكهوف وبين الأودية وحين ذهبنا بالفلوكة *لجزيرة شدوان وجدنا عصاه ملقاة على الشاطئ، فتتبعنا أثر خطواته التى نعرفها حتى وصلنا أول الماء، ولكن الغريب أن هناك خطوات أخرى بجوارها لم يحدد الشيخ سلامة هويتها رغم براعته في تتبع الأثر، ولكنه نظر إلى البحر وهو يقول: هذا بحرنا نحبه ويحبنا سيعيد لنا جسد الريس حربي بعد ثلاث ليال على الأكثر كما عودنا..مرت الثلاث ليال ولم يعد الريس حربي.. غير أننا منذ سنوات،وفي الليالي المقمرة فقط كنا نسمع صوت طنبورته المفقودة آتيا من خلف فنارة شدوان بأعذب الألحان الحزينة.
تـــمـــت 
الغردقة25 ابريل 2015 الخامسة صباحا....
_________________.......توضيح لبعض الكلمات____________-
*الهوري: مركب صغير جدا يتسع لفرد أو اثنين
*الطنبورة: آلة وترية، وهى تطور لآلة الهارموني الفرعونية التى كانت تستخدم فى المعابد للاتصال بالجان، وكان يعتقد أن لها قوة فى التأثير عليهم، وإبان الحرب كانت تستخدم كطبول الحرب لإلهاب حماس المقاومة الشعبية
*شدوان: جزيرة على ساحل البحر الأحمر شهدت بطولات عديدة وتضحيات إبان حرب الاستنزاف
*المتيني: طريقة للغناء فى الأفراح بأن يقف الرجال فى صفين متقابلين ويرددون بعض الأشعار بلحن متوارث.. ويميل إليها كبار السن لأنها لا تعتمد سرعة الحركة
*الرفيحي: طريقة للغناء فى الأفراح بأن يقف المؤديون صفا واحدا ويغنون غناء جماعي ويكون الرتم أسرع من المتيني ويمكن مصاحبة الدف أو آلات إيقاع والسيوف لذا ينجذب الشبان وصغار السن إليها
*الحويش الطويل..المرأة الجميلة الهيفاء
* الحظ: جمع من الرجال يجلسون على الأرض حول العازفين والمؤديين ويتفاعلون مع الغناء بالتصفيق باسلوب منظم منغم متعارف عليه
*أول الفال: نبدأ بالتفاؤل
*العصافير: قطعة خشبية تشد الأوتار بها كتلك التى فى آلة العود
الفنارة:هى المنارة التى تستدل بها السفن
*الفلوكة:مركب متوسط

ليست هناك تعليقات: