الثلاثاء، 4 فبراير 2014

قراءة انطباعية لنصين للكاتب الأستاذ فتحي إسماعيل


...
تقديم
لا أستطيع أن ألج إلى عالم كاتب دون أن أتعرض لجانب من شخصيته ربما يعود هذا لشخصيتي الفضولية، فأنا لا اكتفى بالحرف بل أبحث عَمَّ وراءه ، فالكاتب والإنسان لا ينفصلان ، عندما أردت أن اقرأ المزيد من نصوص الأستاذ فتحي إسماعيل فتحت الصفحة الرئيسية فى مختبر السرديات، وكتبت اسمه فى خانة البحث ، فلاحت لي مشاركاته فى المختبر، فأبصرت تعليقاته تطل علي بعنقها فأزحتها جانبا بلطف ، فما دخلت إلا لأبحث عن نصوصه، وعند تحميل صفحات بحث إضافية وجدت أيضا تعليقات أسفلها تعليقات.. هضاب من التعليقات!! ثم بعد مشقة وجدت نصا، ثم تعليقات وتعليقات على نصوص الزملاء ثم نصا، فقررت أن اقرأ تعليقاته فوجدته يشد من أزر هذا ويشجع ذاك ويضئ نص تلك بقراءة واعية فى بضعة أسطر ...يا الله هذا الشاب الخلوق المتواضع محب للجميع يدفع الجميع للأمام يضع علامات "لايك" بسخاء لأصدقائه ، أحببت ما يفعله وشعرت بمدى نقاء سريرته وتواضعه الجم ، وربما يستمر فى التعليق على أعمال كُتّاب لم يمروا على نص من نصوصه الرائعة حتى بعلامة "لايك" فهو لا يفعل ذلك على سبيل رد الزيارة أو بانتظار المقابل بالمثل ، ولكنه معطاء فى العالم الافتراضي بلا حسابات ، لو كانت هناك شهادة تقدير يمنحها أستاذ فؤاد نصر الدين لأكثر الأشخاص تحفيزا للآخرين فى المختبر لطالبته بمنحها للإنسان الجميل فتحي إسماعيل ، والكاتب فتحي إسماعيل لا يقل روعة عن الإنسان فتحي إسماعيل فهو صاحب مشروع أدبي له ملمح خاص ربما يتسنى لنا أن نتحدث عنه فى مقام آخر...
***
القراءة
النص الأول
....................................(
إحباط)
(
كان لون الشارع أبيض ... أوراق الشجر بيضاء... إسفلت الشارع أببض ... واجهات البنايات بيضاء... لونَ فستانها ، يزين الكون الأبيض قطعَ الكرز المتبعثرةِ على خديها...المتقافزة على الشفتين اللتين تنفرجان وتنطبقان بكلمات لا ولن أسمعها فالمسافة بيني وبينها تحول دون سماعها .. وتحول دون أن تراني – وأن تلحظ الشوق المفاجئ المحموم, المنبعث من عينيّ – وثمارها اليانعة تهدهد الأفق الممتد من عندي إليها ... و ... للحظات منّيت نفسي بالتقاء العينين كي أغزو حدائقها بحراب عشقي وأسقط ما أينع من الثمر بسهام الوله المتبعثر على وجهي ... وحين سمحت لنا المسافات ... ورج محيط المعمورة خفقان قلبي المتحفز النبضات ..
وكانت عيناي صوب عينيها رأيتهما ( عيناها) ترمقان حذائي "المهترئ".... باشمئزاز)

****
الجملة الاستهلالية فى النص أشبه ما تكون بوصف لمشهد مسرحي، فهي تحدد لنا قطع الديكور والمنظر العام للمشهد وترسم لوحة بديعة نقية ،ويتعمد الكاتب أن يبالغ فى تهذيبها وتشذيبها ، ولهذا سبب فني وجيه سيلوح لنا مع النهاية المباغتة ، فالاستهلال يُخَدِم على القفلة،النص معزوفة متفردة، سيمفونية شعرية خلابة، يسير باتجاه النهاية على صرح ممرد من قوارير .. عندما قرأت الاستهلال "الأبيض" وجدت نفسي مُحالا لقصيدة الرائع أمل دنقل أوراق الغرفة" 8 " التي يقول فيها:
فى غُرف العمليات
كان نِقابُ الأطباء أبيض
لون المعاطف أبيض
تاج الحكيمات أبيض، أربطة الشاش والقطن
قرص المنوم، أنبوبة المصل
كوب اللبن
كل هذا يشيع بقلبي الوهن
كل هذا البياض يذكرني بالكفن...
الأبيض كان كفنا أيضا فى قصة فتحي إسماعيل، كفنا لحبه لحلمه الموؤد تحت حذائه المهترئ، الكاتب اختار ضمير "المتكلم" لسرده وهو ضمير مركب "أنا" و "هي" فعندما نسبر غور النفس ونستخرج مكنونها فهذا هو الضمير الأنسب ، وهذا الضمير يجعل الشخصية المحورية فى مثل هذه النصوص أكثر قربا للقارئ وتدفعه للتعاطف معها وتبنى وجهة نظر الراوي ، لذا أجده اختيارا موفقا للغاية ، اللغة الشعرية تغلب على النص وهذا سلاح ذو حدين لو لم يستخدم بوعي وحرفية ، فنجد البعض ينجرف وراء اللغة الشعرية وإيقاعها ويتغافل عن الحدث وصنع الدهشة؛ فيتحول النص من قصة قصيرة جدا إلى نص ينتمي إلى قصيدة النثر لا يَعلق بالذاكرة ، ويشتت القارئ فيخرج خالي الوفاض، مساحة الفعل فى النص مساحة تخيلية ذات بعد مجازى فهي أشبه بالحلم، لذا المكان فى القصة مجرد وظيفة وجسر ايهامى للعبور لقلب الحدث الرئيس ، النهاية صادمة فهو ينظر لعيني حبيبته المبتغاة بما تحمله (العينان) من دلالات الوله والعشق والسمو الروحي ، فالعين هي مرآة الروح، أما هي تنظر إلى أسفل نحو حذائه المهترئ البالي، وفى المفارقة والتضاد جمال يتبدى الفارق بين من ينظر لأعلى فيسمو ومن تنظر لأسفل فتتدني 
العنوان أجده لم يكن موفقا فكأنه وُضع "سد خانة" فهو يشي بالخاتمة ويهئ القارئ للقفلة المحبطة فهو عنوان "كاشف" غير مراوغ.
النص فى مجمله تحفة فنية ، صوغ بحرفية ولغة راقية عذبة تشير إلى قاموس الكاتب اللغوي بإصبع المهارة والغزارة.
*
النص الثاني 

................................
غياب
كلما احتجتُ إليه غاب ، وعندما يعود ... يقص على ما أراه الغياب من مضحكات ومضنيات..كنت أرقبه من أسفل بينما أصابعه تتلمس وجهي الصغير وشعره الأسود الفاحم يزين وجهه الأبيض الذي تغذيه حمرة العافية ، 
غاب لأكون ،وغاب ثانية لأبقى،ثم عاد ليقول ...وما كنت لأقدر أن أرده فيما قال ..أو أن أقول .
غامرت حين استطعت أن أمط الحبل الواصل بيننا قليلاً ... ردني مربتا تارة .. زاجراً أخرى
وحين عرفت كيف الغياب .. تناوبناه مرات وكلما التقينا يزداد فى جبينه خط وعلى جيده عرق بينما جحافل البياض تباغته حينا بعد حين إلى أن احتلت مساحات هائلة من الشعر المنتشر على جسده ..الذي بات ينحل غياباً تلو آخر .. ودوما كنت أتشبث بالرجاء ..وباللقاء المقيم ... وحين جرؤت على الكلام
واستطعت أن أقول .. لفّه الصمت وما رده الغياب.
....
نص إنساني بديع يصف نظرة الابن لأبيه الغائب بحثا عن حياة كريمة لأبنائه، ومشاعر الافتقاد بين الطرفين ورصد لحالة التحول التي تطرأ على مشاعر الابن حين كبر وكأنه انتقلت إليه عدوى الغياب فغاب بدوره إنها لعبة الكراسي الموسيقية ..النص مفعم بالصور الرائعة مثل 

__
كنت أرقبه من أسفل (تصوير البعد فى الحضور)

_
وجهه الأبيض الذي تغذيه حمرة العافية (عنفوان يمهد للتضاد القادم ) 

ـــ بينما جحافل البياض تباغته (تغير زمني حسى)

__
جسده ..الذي بات ينحل غياباً تلو غياب (الغياب أصبح وحدة زمنية)

_
لفّه الصمت وما رده الغياب (غياب أبدى بتعبير مجازى )

تكررت مفردة "غاب" باشتقاقاتها سبع مرات والعنوان جاء تأكيدا لفكرة النص وترسيخا لرسالته ، التبست عليّ مفردة فى النص حين قال (غامرت حين استطعت أن أمط الحبل الواصل بيننا قليلاً ) أمط بمعنى أوسع المسافة ،ولكن السياق يدل على العكس أجدها فى غير محلها ، أو أن هناك ما لم يتسع له ذهني ، النص ككل أجده رائعا ومميزا كأغلب نصوص فتحي إسماعيل التي تتسم بالرومانسية الحالمة فهو يكتب بقلم من البلور.. مفرداته منتقاة بعناية وتركيز.. حرفه راق يسمو ويرتفع بنصه أحيانا فيجعلنا نرفع رؤوسنا حتى تؤلمنا أعناقنا ، وحين يحلق بالقرب يتوهج ويلمع، فكن على مقربة يا صديقي ولا تبتعد حتى نتأملك مليا ... خالص التقدير للكاتب المبدع الجميل فتحي إسماعيل..............................
.
شريف الجهني _الغردقة_ 15 يناير 2014م

ليست هناك تعليقات: