الثلاثاء، 4 فبراير 2014

قراءة انطباعية لقصة "فتحي سند" للكاتب مصطفى عيد


.............................."
النص"
فتحي سند رجل مثقف ، وأنا لا أحب المثقفين .
أعرف أن المشاعر الإنسانية مثل موج البحر متجددة ومتغيرة باستمرار، وأنه ليس من الحكمة التعميم في الحكم علي الناس والأشياء، إلا أنني - وليسامحني القارئ - لا أحب المثقفين، أري أن المثقف يتغزل في الورد والنهر والمروج الخضراء المعلقة علي الحائط، دون أن يرمي نفسه في أحضان الطبيعة ويستمتع بها ، وأري المثقف مثل رجل جائع جلس علي مائدة الطعام، وجمع عليها كل أنواع الطعام، وبدأ يدرس كل نوع علي حدة وعدد السعرات الحرارية، والقيمة الغذائية، ثم يموت جوعا قبل أن ينهي دراسته ونظرياته.
المثقفون يتفرجون علي الحياة دون أن يعيشوا الحياة، و (يُجودون) حديث الخير والجمال دون أن تنصهر قلوبهم في بوتقة المشاعر، قلوب المثقفين ، تنضح مياهاً باردة وليست دماء حارة، أنا لا أستسيغ شرابهم وطعامهم الماسخ وبضاعتهم (المغشوشة) دائما، يقدمون حلولا وهمية لكل المشاكل، وأراهم يحفظون في رؤسهم (كراكيب) و (أمتعة زائدة) يزحمون بها مدخل البيت، وفناء الحديقة، وربما تجد صعوبة في أن تنام علي سرير (المثقف) حتي تصلك رائحة الكتب القديمة علي الأرفف، وبقايا شمع قديم علي المكتب، ووردة قديمة تحمل ذكري حكاية ما،أو سنبلة قمح تيبست بين دفتي كتاب.
أنا لا أحب صحبة المثقفين في الواقع، ومؤكد أن صحبتهم لي علي الورق هو عذاب لا يحتمل، وأنا (الكاتب) لن أكون علي راحتي ولن تكون رحلة (مبهجة بالنسبة لي) مثل رحلاني مع عم فوزي وعم علي وعم فرج ، وعم سعد، كنت أود أن احكي عن عم سعد الذي كان يعيش في غرفة فقيرة تفتح علي (زقاق الخوخة) في حارة الشيخ عمر في قريتي (صُرد - مركز قطور - محافظة الغربية) كان عم سعد فقيرا يعيش باليومية التي يتحصل عليها من مواسم جمع القطن أو حصاد الأرز أو القمح أو البطاطس، عاش وحيداً بعد وفاة زوجته، وكنت أراه أكثر من مرة في اليوم حيث كان يؤدي الصلاة جماعة في جامع ( الغمري ) المواجه لبيتنا، كان عم سعد قصيراً، جلبابه نظيف دائماً، وكانت ابتسامته وحالة الرضا التي يعيشها رغم فقرة تظهره بصحة جيدة، وكأنه شاب في العشرين، صموتاً وهادئاً ولم يكن له أصدقاء، كان رفيقه الوحيد أينما ذهب ( جٓدْي) بفروه سميكة كان ينتظره دائماً خارج المسجد ذو الباب الخشبي السميك الذي يطل علي (علواية الجامع) التي كانت تتوسطها شجرة توت عتيقة بجذوعها المدببة ، ثمارها توت احمر وأسمر صغير مُر المذاق، تملؤني الدهشة الآن كلما تذكرت منظر (الجَدْي) وهو يقف بثبات وجسده مصبوباً سميناً، وعيناه مثبتة علي باب المسجد منتظراً صاحبه دون أن يتحرك وكأنه حارس أو عاشق يتفرغ لحبيبه، يخرج عم سعد ويرتدي نعليه في هدوء ويُخرج شيئاً من جيبه ويضعه في فم (الجَدْي) يعود إلي بيته ويختفي في الحارة و(الجَدْي) يتبعه كظله، كأنهما توحدا في شخص واحد.
هؤلاء (الطيبون) همشتهم الحياة، فهمشوا هم متاعب الحياة وعاشوا الحياة ببساطة واستمتاع علي قدر الطاقة ، يكدحون في الحياة دون تذمر، يجلسون ساعات طويلة في صمت، ويمر يومهم هادئاً دون صخب، ثم يرحلون دون ضجيج ، دون أن يعطونا نصائح، ودون أن نسبر غورهم، لم يتركوا لنا (إرثا كبيرا) من أحداث حياتهم ، هه ، لم يتركوا لنا نحن الكتاب شيئا نقتات عليه، حتي الكتاب يبحثون عن مصلحتهم أيضاً فهم ليسوا ملائكة، فليرحمهم الله هؤلاء المهمشين الطيبين فهم ملح الحياة وسرها، ولا نملك عندما نتذكرهم إلا أن نشعر بالغبطة.
******
ها أنا مضطر أن أكتب عن (فتحي سند) دون غضاضة، وباعتبار أن الحياة ليست نزهة، فإننا أحيانا نضطر إلي فعل الضروري وليس المبهج فقط. وأيضا بدا لي فتحي سند انه كان صادقا في معرفة الحقيقة و محاولة إسعاد البشر فنال الكثير من تعاطفي، علي الأقل لأنه تعذب كثيرا.
وهاهي الحكاية ارويها لكم بعدما (طهرت نفسي من مشاعر البغض للمثقفين، علي الأقل حتي أنهي حكايتي).
أري أن التاريخ ليس ذكريات الحدث، ولكنه ذكريات الإحساس، وأنا أبداً لم (يبهت) الإحساس عندي برؤية أمي دائماً - رحمها الله وأسكنها جنة الخلد - وهي: سيدة سمينة بيضاء، تعمل وتشقي طوال اليوم في بيتنا الريفي الكبير وأسرة مكونة من عشرة أفراد هم إخوتي، وهي تضحك، فتهتز من الضحك ويحمر وجهها وتدمع عيناها، وهي تنظف روث البهائم وترفعني أنا الطفل الصغير الأسمر النحيل وتضعني علي (نقلة السباخ) ولم يبهت إحساسي بالشمس وهي تلهب ( قفاي ) وأنا راكب علي الحمار مرتديا جلباباً ازرق مخطط وحافيا وأنا افترش (نقلة السباخ) بالقش . أسرح كل صباح إلي (الحقل) وأعود مساء.
في رحلتي اليومية إلي الحقل، كنت أري فتحي سند جالسا علي (المصطبة في حارة علواية الجامع) كان هو الشاب الجامعي الوحيد في الحارة التي ولدت فيها، يرتدي جلباباً أبيضا، ويجلس في هدوء يطالع كتبه، وبطريقة عفوية كان يُمسك خصلة شعره المجعد طول الوقت، وكأنه يحاول فرده شعرة شعرة، كانت هيئته رائقة، وكان شباب الحارة، يحاولون التقرب منه، وعرض خدماتهم عليه، وبالطبع تقليده بطريقة عفوية، ههههههه فتجد البعض يُمسك شعره بنفس الطريقة لمحاولة فرده.
تخرج فتحي سند من كلية الهندسة بتفوق، سافر إلي ألمانيا في بعثة دراسية وعاد للعمل في شركة مقاولات كبيرة في القاهرة، انقطعت عنا أخباره في القرية، وكنا دائماً نذكره بكل فخر، كنموذج نطمح نحن جميعاً أن نكون مثله.
كبرت أنا، وتغيرت أحوال الدنيا، وسافر معظم أهل الحارة وتركوها، وعاد فتحي سند ليتزوج من قريتنا، ويسكن الحارة من جديد، ولأسباب لا أعرفها ترك العمل في القاهرة، ليتسلم جواب تعيين الحكومة ويعمل موظفا في مجلس محلي مركز قطور (قسم تراخيص المباني) أبعد ما يكون عن تخصصه.
في اعتقادي أنا أن كل النساء جميلات ، و كل الرجال رائعون، فمن أين يأتي القبح إذن؟! 
يأتي القبح عندما تعتل روح الإنسان، أن يعمل عملاً لا يحبه، مثلما تتزوج المرأة رجلاً لا تحبه، فتختفي الابتسامة و يصبح الإنسان مثل عود حطب جاف.
لم يسعد فتحي سند بعمله في قسم تراخيص المباني في مجلس المدينة الملئ بالرشوة وشبكة العلاقات المشبوهة، ولكنه ظل شريفاً لم يُلوث، ولكنه أيضاً لم يُحب عمله ولم يتفهمه، أصبح العمل مجرد مكتب وكرسي ومرتب آخر الشهر.
استسلم فتحي سند لمجري حياته، ورزق بسبعة أطفال وأعتلت صحة زوجته، أطلق لحيته وأصبح يقضي وقتاً طويلاً في المسجد .
مع مرور السنين تغير فتحي سند كثيراً، كان يعلم أنه لا يستطيع أن يبدأ حياته من جديد، لا يستطيع أن ينقل أسرته الكبيرة من الحارة ولا يستطيع أن يعود إلي عمله الذي أبدع فيه يوماً كمهندس بترول، وأصبحت ذكري بعثته إلي ألمانيا يوماً، ذكري باهتة لا تحرك ساكناً بداخله، وكذا كل أحلام الشباب الجميلة.
أصبح صموتاً، يقضي وقتاً طويلاً في عزلته، تغيب كثيراً عن عمله، ويفكر في قضايا أزلية عن الحياة والموت والسعادة، وهل الإنسان مُسير أم مخير، و من هو الله؟
ظل مثل سطح البحر الهادئ تتصارع في أعماقه كل المعاني والمشاعر، يُجاهد أن يخرج سالما معافى، ويهنأ بالسكينة وراحة البال .
قضي فتحي سند ثلاثة أيام في عزلته، زوجته تبكي وازدادت مرضاً، ولولا رعاية إخوته لتضور أطفاله جوعاً.
كان قلبه يغلي مثل براد شاي نُسي علي نار هادئة في ليلة شديدة البرودة، أدرك فتحي سند أن الحياة مَهمة ثقيلة، يجب أن يقوم كلا منا بدورة، مهما كان ألمه أو وجعه، علينا أن نواجه الحياة ونحن رجال، ونبتسم ، ووصل لقناعة انه علينا أن نتصالح مع الحياة و مع الموت، علينا أن نتفاءل خيراً أننا لم نُخلق عبثا، وان الله العلي القدير الرحيم سيشملنا برعايته، فقط علينا أن نتدرب علي الحب، أن نحب كل شئ، نحب الحياة والناس ونحب الموت ، وان نبتسم ونحن في الصحة والشباب والغني، ونبتسم في الأزمات والانكسارات، ونبتسم في وجه الموت أيضاً، علينا أن نتعرف إلي (الله).
كانت أعماق فتحي سند تضطرب وهو علي يقين أن كل شقاء البشر لا ضرورة له، وأشرق وجهه بالفرح والحب للحياة والناس، تأمل وجهه في المرآة، وراعه طول لحيته ونحافته، فضحك بصوت عال وهو يشير إلي نفسه في المرآة، يقترب من المرآة ويرفع حاجباً ويخفض حاجب ويضحك هههههههه، هه هاي يخاطب نفسه هه هاي هه هئ هئ ياولد ياولد، ما الأمر هههههه، يرفع إصبعه علي هيئة مسدس ويصوب لنفسه في المرآة، ويمثل دور القتيل، ويضحك هههههههه ، يقفز في الحمام مثل طفل سعيد بالشارع بعد يوم دراسي طويل ومرهق، استمع إلي المزمار والطبل عالياً علي ناصية الشارع، وهو يحلق ذقنه، فتوقف ونظر إلي نفسه في المرآة وهو يضحك، راق له وجهه وهو نصف حليق، ضحك وأغرق في الضحك، تحسس النصف الحليق و أعاد (الموسي) عليه حتي أصبح ناعماً، ودلكه بالكولونيا، ثم مرر يديه علي نصف ذقنه باللحية الطويلة،اقترب وابتعد من المرآة وهو يضحك ويغرق في الضحك من غرابة هيئته، خرج من الحمام علي هذه الهيئة ببيجامة النوم، وانطلق يجري إلي الشارع سعيداً، يلقي التحية علي الجميع، ويأخذ كل من يقابله بالأحضان، وهو مغرق في الضحك، يؤكد لكل من يسلم عليه انه يُحبه وانه مستعداً لعمل أي شئ لإسعاده، ويهزه من يديه في عصبية، أشتري حلوي ليوزعها علي الأطفال، حتي وصل إلي قلب العُرس، فأخذ يرقص ويحجل سعيدا عصبيا، بنصف ذقن حليق ، وبيجامة نوم متسخة ، تحلق الأطفال حوله في دائرة كبيرة يصفقون ويهللون ويهزءون به، وهو يرقص ويقفز لأعلي، وصخب الأولاد حوله يغطي علي ضجيج العُرس.
تعودنا من كتاب السينما والروايات القصصية - السطحية - إنهم يسوقون البطل إلي حدث كبير وانكسار كبير في حياته، مما يُحدث (الصدمة) التي تأخذ الحكاية إلي (الذروة) أو (العقدة) فتحدث التشويق وتكون سببا مقنعا لحالة (التحول) في الشخصية، وانا أري عكس ذلك تماماً أن التحول في شخصياتنا عندما يحدث ليس طارئاً، بل هو كامن في أعماقنا طول الوقت ولم يره احد، ولم تختبره الأحداث لتُظهره، بل أنا علي يقين أن كثير من البشر يسلكون درب الحياة حتي النهاية، دون أن يتعرفوا علي أنفسهم، فتظل روحهم غريبة عليهم حتي يتسلمها الموت منهم بوجه عبوس.
حاول بعض الرجال تخليص فتحي سند من وسط الأولاد وهم يهزءون به، وهو يجري ورائهم بعصبية، ودهشة، أمسك فتحي سند برجل سمين وهزه موبخاً: يا رجل يـــــــــــا ضلالي، تسلف الناس فلوس بالفائدة، إلا تعلم أن الربا حرام؟ ثم صفع الرجل علي وجهه بعنف، حرر نفسه من قبضة الرجال حوله وهم يحاولون تهدئته، جري مسرعاً عائداً إلي البيت مشوشاً وعصبياً، زائغ البصر.
رأي والده جالساً أمام البيت، كان شيخاً طاعناً في السن، منكفئاً علي نفسه، كومة من العظام، يتدفأ في شمس الشتاء، ويلتف في عباءته السوداء فكان جسده صغيرا في العباءة وكأنه طفل. 
تذكره وهو رجل في عنفوانه، يُرهبه، وكم كان نصيبه من الضرب كلما تهرب من المدرسة، أو سهر ليلا ، أو تشاجر مع الصبية في الشارع، كان أباه يضربه ضربا مبرحا كلما اخطأ وكان دائماً يخطئ، كان الشيخ مثيراً للشفقة حقاً بجسده الصغير ولحيته البيضاء، و فمه يخلوا من الأسنان ، ضريرا يتحسس الأشياء، فاض فتحي سند قلبه حباً وشفقة علي والده، رأي سحابة بيضاء هائلة تغطي البلدة بأكملها، وملك الموت وقوراً هادئاً يفتح دفتره ويخط شيئاً بالقلم، ورأي علامة الموت البيضاء تظلل الشيخ وماهي إلا دقائق وتُقبض روحه، فحزن فتحي سند علي الشيخ وبكي من أجله، وتمني أن تُقبض روحه في (المسجد) فتقدم من الشيخ وركع علي قدميه و سلم عليه، مُقبلاً يديه وهو زائغ البصر، ترجي الشيخ ممسكاً بيديه في عصبية:
-
تعال معي.
كانت تصرفات فتحي سند غريبة في الفترة الأخيرة، فانتفض الشيخ عندما عرفه ونادي:
-
روح، روح بابني ربنا يهديك، روح.
كان الشيخ عاجزا عن الحركة، ينتفض، عندما سمع صوت ابنه، خاف أن يفاجئه بحركة مؤذية، كان فتحي سند يعلم استحالة تبليغ ما يراه، فكان عليه أن يستعجل الأمر، فجره من قدميه إلي المسجد حتي تُقبض روحه في بيت الله الذي يبتعد عنه بضعة أمتار، كان منظرالشيخ وهو مطروح أرضاً شيئاً مريعاً، وهو يزعق ويصرخ ويرفس بقدميه وكأنه فرخ مذبوح، فُصل رأسه عن جسده وتُرك علي قارعة الطريق حتي تهمد حركته، اجتمع الناس ، وتكالبوا علي (فتحي) يُضربونه وهو متشبثاً بجسد الشيخ يجره علي الأرض، في إصرار رهيب، خلصوا الشيخ من يديه بالكاد، و أمسكوا فتحي وقيدوه بالحبال وهو غارقاً في دمائه.
في زياراتي القليلة إلي القرية، تعودت أن أذهب لزيارة فتحي سند في المستشفي، أشتري له الكثير من الكتب والسجائر والعصائر والملابس الجديدة، وفي فناء المستشفي أجلس بجواره وهو صامت، منكساً رأسه، والمرضي حولنا بملابسهم المتسخة، يأتون إلي كزائر يطلبون السجائر، وكلا منهم يحكي شيئاً طريفاً عن حياته بطريقة فيها مبالغة وغير مقنعة بالطبع، وهم يُلحون في طلباتهم ويجمعون أعقاب السجائر من حولنا- إن الأدوية التي يأخذونها ثلاث مرات في اليوم تُزيد شراهتهم للتدخين - وتُقلل من هياجهم، يصرخ في وجههم الممرضون، ويأمروهم بالابتعاد، ويهددونهم، فيبتعدون مستسلمين وادعين، ثم يتحايلون علي الأمر ويقتربون منا مرة أخري.
كنت أتحدث كثيراً إلي فتحي سند كلما ذهبت لزيارته، كنت أحاول المستحيل لتتبع أفكاره ومشاعره، وماذا يدور في رأسه ، كان هو يرفض الكلام، ثم يرفع رأسه إلي، عيناه بيضاء، تُحدق في الفراغ، ثم ينتفض و يهتز جسده كلياً، ويقوم بنصف جسده، وهو يشير خلفي بإصبعه، فأتلفت حولي باهتمام بالغ، واسأله ملحاً:
-
ما الأمر، ما الأمر؟
فيقول بانفعال: 
-
الله، أنا رأيت الله الآن.
وهو يشير إلي السماء.
::::::::::::::::::::::::::::::::::::
مقدمة

ما أنا بناقدٍ ، ولكن هذا النص أسرني وناداني فلبيتُ ، القاعدة الأولي تقول:دع النص يُناديك ، وعادةً لا استطيع أن آخذ نَفْسِي بالشِدة فى الكِتَابة ، ولابُد أن يَبْلغ مني الاِستفزاز مبلغًا حتى أكتُب ، وأنا بِصَددِ الحَدِيث عن نَص الأستاذ مصطفى عيد الذي عرفناهُ بقراءاتهِ النَقْدية المُتَمَيزة فَطغى مصطفى الناقد على مصطفى الروائي ، وعندما طَالعتُ هذا النص لأول مرةٍ منذ أكثر من شَهرٍ كُنْتُ فى العملِ مُحاطاً بالصَخبِ والضَجِيج ورغم ذلك لم تُغَادر عَيناي الحاسوب إلا بعد أن فَرغتُ منه ،وشعرتُ بِعَنَاصر جَمال به ، ولَكني لَم اَستَطع وضع أصَابعي عليها جَيدا، فَقلت لنَفسي لي عَودة مَع فَتحي سَند لقراءته جَيدا لاستيعابه وهَضمه فقراءة واحدة لمثل هَكذا نصوص لا تَكفى ، سَألتُ نَفسي قَبل أن أهِم بكتَابة قِراءتي الاِنطبَاعية هل من المُجازَفة أن أتنَاول نَص ناقدٍ بالقراءة ؟! وخَاصة أنني لا أحبُ النُقاد..نَعم أعتَرف أنا لا أحبُ النُقْاد ؛ فالنَاقد يَرفعُ من يشاء _من الكُتَّاب_ ويُعز من يشاء ، ويَخسف بنَص مَن يَشاء الأرض تبعًا لهَواه وذَائقته الأدبية، وأغلب من رأيتهم تتخطَفهم الأهواء ، ورأيت من بَعضهم ما نَفّرني من أغلبهم ، فأنا أكره اِثنان النَاقد وطبيبُ الأسنان ، وهل سأكتب عن مصطفى عيد الروائي انتقاماً من مصطفى عيد الناقد ؟ ههههه ..لا ..إنها دُعَابة.. فأنا أحبُ مصطفى عيد الإنسان الذي رأيت مواقفه النبيلة ولم ألتقيه ، ولكن هذا لن يجعلني مجاملاً له ، فلا أُحْسِن هذا الفن مُطلقاً وأقسى اللحظات عليّ حين يسألني صديقٌ عن رأيي فى نَصٍ له ، ويا لِحَظّي العَاثر لو النص ردئ.. أجِدني أحاول أن ألتف بالكَلمات حتى أُخَفّف من وطأتها عليه ، وغالباً أفشل فى ذلك فَتخرُج كَلماتي كالدَبْش حَادة قَاسية فأعود على نفسي باللومِِ والتَوبِيخِِ قائلاً لها وما عساها كلمة رائع..أحسنت..أبدعت..جميل...هذه الكلمات السِحرية التي لن تُنَفر منك الأصدقاء مُطلقاً، وأقول لن أعود، ثُم أنسى عِند أول طَلب مَشورة، مُقدمتي هذه كتبتها بعد الانتهاء من كتابة تلك القراءة، فلم أكن على ثِقةٍ أنني سأستطيع أن أُنهى القِراءة لتلك القِصة المُجهدة لأبدأ بالمقدمة ولكن كلما جفاني قلمي عدتُ إلى قراءة فتحي سند فَيَسْتنهضني لأُتممها ففتحي سند كان عوني الوحيد بعد الله كي أكتب عن فتحي سند وكأن روحه الشَفِيفَة كانت تُحَلق من حَولي .
.."
القراءة"
يُسْتَهل النص بالجُملةِ الآتية 
(
فتحي سند رجل مثقف ، وأنا لا أحب المثقفين)
هكذا الكاتب اِختار أن يَستَهل قِصَتهُ بفرض شخصيته علينا وكأنه يُملى شروطه .. ويقول للقارئ : سوف أكون حاضراً من أول النص ، تَوقع أن أُدلى بِدَلوي دائما ، مَشاعري الخَاصَة سَتكون مقياسك للإحسَاس بالشَخْصِيات ، وفَتحي سَندْ رجل مثقف ، وهو لا يحبُ المُثَقَفِين ... ولأن الروح النَقدية مُتملكة مِن الكَاتب تَجده يَنتقد المُثقَفين ثم ما يَلبث إلا وينتقد جُمْلته التي استهل بها نَصه فيقول ( ليس من الحكمة التعميم في الحكم علي الناس) _روح الناقد حاضرة_ ...ها هو يَضعنا في حالة مِن التَوترِ مُنْذ اللَحظة الأولى فهو يُفكر بِصَوتٍ عالٍ ، ينتقد كل المٌثقفين ثم ينتقد نفسه ..وقبل أن تندمج في السَردِ ومُبَكِراً جداً يقوم بما يُسمى عند أهل المسرح ب"كَسْر الإيهام" بجُملةٍ اعتراضيةٍ_ وكثيراً ما يفعل_ ويقول (_وليسامحني القارئ -) ويَسْتدعى القارئ،ويَوكزهُ في كَتفهِ بقلَمِهِ.. وكأنهُ يَقُولُ له "اِحضرنا يا أخينا " ويَبدأ بالتَمْهِيد لِحُضُور شَخصية فَتحي سند بمُقدمةٍ تَصْلح أنْ تَكُون قصةً قصيرةً مٌستقلةً بذاتها لا تنقُصها سِوى قَفْلةً غير مُجهدةً ، ولكن فتحي سند يَسْتَحق أنْ تَتقَدَم قصتهُ قصة أُخرى ،ولكن القِصة الاِفْتِتَاحية بِدَاخِلَهَا قِصة أٌخرى!! وبداخلها فتحي سند آخر!! ولَكنه فتحي سند لم تُرهقه الثَقَافة فاستراح عَقلهُ إنه "عم سعد" .. تذكرتُ الساحر الذي كان يُسْتقدم لنا فى الحفلات المدرسية، فيستخرج لنا عُلبة من داخل عُلبة من داخل عُلبة ؛ فنتصلب مَشْدُوهي البَصر ..تأمل معي القصة القصيرة التي اقتطعتُها من القصة المٌفتتح لما قبل خُروج فتحي سند علينا ..... القصة سأُحَاول أن أضع لها عُنواناً وليكُن ( العم سعد) أو فليكُنْ (جدْي العم سعد) 
(
كان عم سعد فقيرًا يَعِيش باليَومِية التي يَتَحَصَل عَلَيَها مِنْ مَواسم جمع القُطن أو حصاد الأرز أو القمح أو البطاطس، وعاش وحيداً بعد وفاة زوجته، وكنت أراه أكثر من مرة في اليوم حيث كان يؤدي الصلاة جماعة في جامع ( الغمري ) المواجه لبيتنا، كان عم سعد قصيراً، جلبابه نظيف دائماً، وكانت ابتسامته وحالة الرضا التي يعيشها رغم فقره تظهره بصحة جيدة، وكأنه شاب في العشرين، صموتاً وهادئاً ولم يكن له أصدقاء، كان رفيقه الوحيد أينما ذهب ( جٓدْي) بفروة سميكة كان ينتظره دائماً خارج المسجد ذو الباب الخَشبي السَميك الذي يطل علي (علواية الجامع) التي كانت تتوسطها شجرة توت عتيقة بجذوعها المدببة ، ثمارها توت أحمر وأسمر صَغير مُر المذاق، تملؤني الدهشة الآن كلما تذكرت منظر ( الجَدْي ) وهو يقف بثبات وجسده مصبوباً سميناً، وعيناه مثبتة علي باب المسجد منتظراً صاحبه دون أن يتحرك وكأنه حارس أو عاشق يتفرغ لحبيبه ، يخرج عم سعد ويرتدي نعليه في هدوء ويُخرج شيئاً من جيبه ويضعه في فم (الجَدْي) يعود إلي بيته ويختفي في الحارة و(الجَدْي) يتبعه كظله، كأنهما توحدا في شخص واحد ) تمت.
..
هل تبسمت وقلتَ رائع مثلما فعلت أنا ؟! نحنٌ إذن أمام كاتب طويل النفَس يملك كل مٌقومات روائي من طراز فريد يسترسل دون أن تمل ..من الممكن أن يكتُب لك صفحات عن رجل كان يٌفكر في طلاء البيت ويسبُر أغواره ، وتستمتع حتى دون أن يخبرنا في نهاية النص ما لون الطلاء ، أو هل قرر أن يطلى بيته أم تراجع، وتلك ميزة السرد الرقراق المنساب بعذٌوبة فلا شوائب ولا مطبات ..ولكني سأفلت من هذا الفخ ولن أٌسهب في الحديث عن عم سعد فلقد جئتُ لأقابل فتحي سند وما العم سعد إلا رجلا التقيته في الطريق هو وجَدْيه كثيف الفراء ، اَعْترف أنه شخصية جذابة ويٌغريك بالحديث عنه ولكني سأتجاوزه وأنا أتلفت خلفي شوقا إليه
.. ..
حسنا ما زلنا في المُقدمة التي كنت أراها زائدة عندما قرأت النَص لأولِ مَرة ولَكِنِي أُقر أنني كنتُ مُخطئاً تماماً فيما ذَهبتُ إليهِ، فالمُقدمة جُزءٌ لا يتجزأ من الحَبْكة ولا يُمْكِن اِقْتطاعها من النص الكلي مُطلقاً فهي بِمثابة قِطعة القماش التي كان قديما يفردها الكَوَّاءُ على القميص حتى تمتص حرارة المكواة كي لا يحترق القميص الباهظ ، وهى الإرهاصة السردية لخروج فتحي سند المثقف.. فى المُقدمة السردية يعلن الكاتب _المحامى الحقوقي_ انتماؤه وحبه للمهشمين صراحة ويقول ( أنا لا أحب صحبة المثقفين في الواقع، ومؤكد أن صحبَتهم لي علي الوَرق هو عَذاب لا يحتمل، وأنا (الكاتب ) لن أكون علي راحتي ولن تكون رحلة (مبهجة بالنسبة لي) مثل رَحلاتي مع عم فوزي وعم علي وعم فرج ، وعم سعد).. طُوبى للمهمشين..طُوبى للضُعفاء المَساكين ،وجدتُ نفسي أشاركهُ نفس الشُعور فأنا أحبُ هؤلاء ..كتبتُ عن "عبد المُنعِم" بائع الكتب بحي مصر القديمة بمبانيه العتيقة وهواؤه المحمل بعبق التاريخ كأنه يهب من كُتب الأساطير عبد المُنعِم الذي كان يُحب الكتب ويُحب الشاي ويُحبُ الأطفال ويكرهُ الصُحف اليومية ، تذكرتُ "عبد السلام" الطفلُ المُتسول الذي ضل طريقه فى نهاية قصتي "عبد السلام يمضى للأمام"، ذكرني باليتيم القابع فى آخر الفصل فى قصتي "عطف" والذي تكالبت عليه الأيدي عطفاً من أجل أن تمسح على شعر رأسه فأُريق دمه ، تذكرت كل هؤلاء وأنا اقرأ فتحي سند ، وقَدّرتُ تماماً مشاعر الراوي فى النص ...حسنا ما زلنا فى المُقدمة الرائعة ولم نُقابل فتحي سند بعد، فمقابلة فتحي سند ليست بالأمر الهين.. لابد أن نتطهر ونتهيأ لذلك جيدا، نغتسل من أدران المجتمع المادي البغيض ، ونعترف بأننا مذنبون في حق هؤلاء المهمشون مُرهفي الحس ، شفيفي الرُوح ..فلنأخذ نفساً عميقاً ونربط الحزام جيدا فسوف نُقلع في رحلةٍ إلى عالم فتحي سند ..حتى الكاتب يُشاركنا نفس حالة التطهر ولكن من بُغضه للمثقفين حين يقول ممهداً للحكي عن فتحي سند (طهرت نفسي من مشاعر البغض للمثقفين ، علي الأقل حتي انهي حكايتي)

******** 
لا يخلو نَص مُصْطَفَى عِيد مِن فلسفةٍ جميلةٍ وعميقةٍ لا تُخطئها العين فَمثلا يقول (الحياة ليست نزهة، فإننا أحيانا نضطر إلي فعل الضروري وليس المبهج فقط ) ...... (أري أن التاريخ ليس ذكريات الحدث، ولكنه ذكريات الإحساس) ........ ( التحول في شخصياتنا عندما يحدث ليس طارئاً، بل هو كامن في أعماقنا طول الوقت ولم يره أحد، ولم تختبره الأحداث لتُظهره) ...... ( أنا علي يقين أن كثير من البشر يسلكون درب الحياة حتي النهاية، دون أن يتعرفوا علي أنفسهم، فتظل روحهم غريبة عليهم حتي يتسلمها الموت منهم بوجه عبوس) وهنا تتبدى علاقة الأدب بالفلسفة في أبهي حُلة ، فاللغة هي البوابة الشرعية للدخول لعالم الفلسفة ، ولكن هنا الفلسفة لا تخلو من العاطفة بعكس الفلسفة البحتة التي تعتمل العقل والجدل والفكر كمرتكزات أساسية للبناء..
هذا المُهذب مصطفى عيد يبدو لي هو الرجل الذي يقرع الباب فتقول له : تفضل الباب مفتوح ، فيقرعه ثانية ليتأكد أنه أخذ الإذن ، ثم بعد ذلك يتنحنح ويسعل ليس لكونه مُدخناً شرهاً بل مبالغة في الاستئذان والتنبيه وها هو يُنبهنا أنه سيدخل عالم فتحي سند، وكأن تلك المُقدمة الباذخة لم تكن كافية فيقول (ها أنا مضطر أن أكتب عن ( فتحي سند ) دون غضاضة، وباعتبار أن الحياة ليست نزهة، فإننا أحيانا نضطر إلي فعل الضروري وليس المبهج فقط ) تماماً مثل قرع الطُبول المتتابع في السيرك قبل أن يؤدى اللاعب الماهر حركة خطرة فيستمر القرع منبهاً الجمهور لخطورة ما سوف يحدث فمن منشغل بأكل "الفيشار" ينتبه ، ومن انشغل بمسح الأيس كريم الذي سال منه على ظهر يده ينتبه.. فما سوف يحدث خطير..لا أعتقد أن مصطفى عيد يضع خُطة للنص فهو يكتب النص والنص يكتبه، يسحب الهلب ويرفع أشرعة القلم وينتظر الرياح القادمة من قريحته أين ستذهب به ،وهذا النوع من الكتابة الشعورية _من وجهة نظري_ لو تم التَخْطِيط لها لراح بهاؤها وذهبت براءتها ونضارتها ، فبعض النصوص يفسدها التدليل ...أراد الكاتب أن يعود لطفولته ليحكى لنا عن مستهل معرفته بفتحي سند فلم يجد مُدخلاً أجمل ولا أدفأ من حُضن أمه، فعاد للقلم بريقه بعد أن بدأ يخبو قليلا وأنهكته السطور.. وهذا ذكاء فطري لا يملكه إلا من خُلق ليكون روائيا.
****
من فتحي سند ؟
فتحي سند هو رجل (جاع...فأكل أحلامه) ..نعم مثل فتحي سند هو من كتبت عنهم ومضتي هذى ، في البدء تكون لنا أحلاما جميلة وطموحات كبيرة حتى إذا اصطدمنا بالواقع تبخرت أحلامنا حُلما وراء حُلمٍ ، وكأننا نلتهمها من فرط احتياجاتنا الضرورية للبقاء، ولكن نلتهمها ولا نشبع فالأحلام لا تُطعِم من جوع ولا تُؤمِن من خوف بل يزداد نهمنا، فنأكل المزيد حتى إذا التهمناها كلها لم يبق لنا ما نحيا من أجله ،وربما يتحمل البعض أو يُجاور البعض فتحي سند ،إنها مأساة فتحي سند هذا الشاب المثقف الجامعي العائد من بعثة إلى ألمانيا لتفوقه ،
ثم تتكسر أفْلاك طموحاته على صُخور الفساد والبيروقراطية والعَوز.. فَقَدَ فتحي سند سَكِينَته الداخلية؛فأطلق لِحْيَته وسعى للتدين _الظاهري_ ليُلقى على الله ما ناء بحمله _وهو عقله_ وأقنع نفسه أن كل ما يحدُث له هو قضاء وقدر ولا يد له فيه وقيد حريتهُ بيده وركن إلى خمول التسيير وأراح عقلهُ من وَخزات التَكليف ... الكاتبُ وَصَف حَالة التحول فى الشَخْصية بِبراعةٍ فى السرد واسْتَعَان بِضَمِير الغَائب بَعد أنْ بَدأ بِضميرِ الأنا وهذا التحول محمود فى القَص الطويل مذموم فى القص القصير جدا ، فلا توجد مساحة للاندماج مع الضمير الجديد، ولا أضع قواعد ولكن هو رأي شخصي وقناعات قابلة للتغيير فليس من الحصافة الجزم بشيءٍ فى عالم الأدب ، فكل نص وله متطلباته ومقتضياته التي غالباً يكون منبعها الإحساس والحدس ،وهما أقوى أدوات الكاتب ..اللحظة الفارقة بدأت أمام المِرآة وهو يهم بحلق لحيته بعد أن خَرج من عُزلته التأملية ، واختيار الوقفة الفارقة فى النص أن تكون أمام المرآة وما لها من دلالة انعكاسية كان موفقا جداً ، فتحي سند حلق نص لحيته وترك النصف الآخر.. هل لهذا الحدث سابقة فى التاريخ الإنساني ؟ نعم.. الفيلسوف اليوناني "ديموسينس" قام بحلق نصف لحيته ونصف شعره حتى يجبر نفسه على المكوث فى البيت والتفرُغ للكتابة وعدم الخروج للناس والدُخول معهم فى جدل عقيم ، ولكن هنا المعنى مُختلف تماما ولو تشابه الحذو ، ومنذ عام تقريبا _فى مصر_ قام أحد الرجال بحلق نصف لحيته تعبيرا عن رفضه السياسي لحالة الاستقطاب الديني والمتاجرة وكأنهُ يشطر نفسه شطرين وأراد أن يوجه رسالة ما... حقيقة الفكرة عبقرية ولا أظنها تخرج إلا من رحم الواقع .
....................
*
فتحي سند حلاج القرية 
أن تتعالى بنصك وتجعله يناطح أسطورة ما أو يحاكيها أو تحول بطل من أبطالك إلى أسطورة فتلك حِرفة الكبار، لا تخطئ عين لبيب التواصل والاتصال بين مأساة الحلاج ومأساة فتحي سند
والنهاية الحتمية لكل منهما رغم اختلافها لتغير الزمان والمكان ، الانجذاب العقلي الذي حدث لفتحي سند وولج به إلى مقام "الكشف والشهود" فتجده يحاول أن يجذب أباه إلى المسجد لأنه توهم أن مَلك الموت يحوم حوله، وحانت ساعته، وأراد له حُسن الخاتمة بأن تُقبض روحه وهو فى بيتٍ من بيوت الله، فلم يعرف الناس مقصده النبيل؛ فانهالوا عليه ركلا وضربا باليمين وقيدوه ، الفجوة بين فتحي سند ومجتمعه حاضرة من أول ظهوره فى النص وظلت تتصاعد كتصاعد صوت آلات النفخ فى السيمفونية الخامسة لبيتهوفن إلى أن وصلت إلى تلك الدرجة التي يستحيل معها التعايش مع من حوله ، آخر عبارة أنهى بها الكاتب نصه على لسان فتحي سند هي -) الله، أنا رأيت الله الآن.
وهو يُشير إلي السماء.) هل نحنُ مُطالبون بالتعامل مع تلك الكلمات الموحية بجدية ؟ فلم تصدر إلا عن شخصٍ نزيل مشفى الأمراض النفسية، فهل نُقيم كلام المجانين وهل فتحي سند جُن ؟ أم صعد إلى مقام الأولياء؟ الله الرحيم يتجلى لنا فى رحمته بالضعفاء، فى بطشه بالجبابرة، فى كل لمحة، ونفس، الله موجود وسر الوجود ونور النور قال تعالى }وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ{..قريب من فتحي سند وقريب من عباده الضعفاء..هذا المقطع من كتاب النفري وهو من أئمة أهل الصوفية وفيه (يقول الله لعبده
يا عبد لا أرضاك لشئ حتى ولو كان الجنة ولو رضيتها أنت
فقد خلقتك لي لتكون عندي..
عند لا عند وحيث لا حيث
خلقتك على صورتي واحدا فردا سميعا بصيرا متكلما وجعلتك لتجليات أسمائي ومحلا لعنايتي
أنت منظري لا ستور مسدلة بيني وبينك
أنت جليسي لا حدود بيني وبينك
يا عبد ليس بيني وبينك بين
أنت أقرب إلي من نفسك
أنا أقرب إليك من نطقك
فانظر إلى فإني أحب أن أنظر إليك)
للصوفية شَطَحَات ولغة خاصة لا يدركها إلا الخَواص وخَواص الخَواص ولقد أوردَ هذا المَقطع الدكتور مصطفى محمود فى كِتِاب "رأيتُ الله" 

................*
الخاتمة
انتهيت من قراءتي وما زال يراودني شعور بالتقصير تجاه فتحي سند، فلم يأخذ حقه كاملا ، ولكنني سأعتبر قراءتي المتواضعة بمثابة إصبع سبابة يشير إلى النص فى صمت وهيبة، وبقى أن أقول أننا أمام قلم نذر أن نجد مثله، قلم فياض عذب رقراق ، مصطفى عيد كاتب يملك أدوات تؤهله أن يكون بين الكبار، مصطفى عيد يكتب بتدفق عاطفي وفيض من نبع سكن فى وجدانه ..

ليست هناك تعليقات: