الثلاثاء، 22 يناير 2013

نجع أبو شال





لَيل قَريَتِنا مُخِيف لَم تَستَطِع أعْمِدةُ الإنارة هزيمتهُ هَكَذا قال أبى وسَيارتنا تَشُقُ الطَريق الزِرَاعيّ الضَيق ..... نَقيق الضَفادع طَغى على صَوتِ مُحَرِك السَيارة القَديمة .... رائحة بَقايا القََش المُحتَرِق تَوحَدت مَع الهَواء.....أجلِس بِجَانِب والدي الذي يَقود ببطءٍ يُصيبَني بالملل ....لم استَطِع النوم - كعادتي -وأمي وأختي كانتا تَغُطْان في نومٍ عَميقٍ فالمَسَافة بين مُقامنا في القَاهرةِ وبَيت العائلة في القريةِ تَسْتَغرق أربعة ساعات ومَع قيادة والدي الحَذِرة تَتجاوز الست ساعات..... مات جَدّي العام الماضي وأصبح لِزاماً عَلى أبى أن يأتي بِنا كُلما تَيسر له الوقت فلقد اِقْتَرب موعد ذكرى سَنَوية جَدّي كعادة أهل الريف .... العزاء ثلاث ليال وربما خَمس بَعدَها تتجدد الأحزان في اليومِ الخَامس عَشر ثم الأربَعين والغد هو موعد السَنوية.....أحمل داخلي ذكريات جَميلة للقرية فلقد قََضَيتُ فيها فِترة الطُفولة حتى اِنتهاء مَرحلة التَعليم الاِبتدائي وانتقلت إلى القاهرة بِحُكم نَقل عَمل والدي الموظف في الإسكان ..... اتذكر كُتَّاب القرية والنشأة الدينية التي أجد أثرها في تكويني.. فلم يُبهرني بَريق المدينة، ولم أنْجَرف إلى ما يَصْبو إليه بَعض أترابي من نَزواتٍ
أثناء فترة المُراهقة ...أجدني حَذر جداً عند تكوين الصَدَاقات مع الآخرين ...إذ اِنجذَبتُ إلى الجِنسِ الآخر لا يَتعد الأمر النَظَرات المُخْتلَسة .... هنا في القَريةِ عَرفتُ الحُب الأول مبكراً ..... حباً نقياً كهواء الفجرِ طاهراً كضوء الصبحِ.. ما أن تَهِم والدتي بِحزم حَقائبنا إلا وأجد الابتسامة قد ارتَسَمت على ملامحي .... لكنني هذه المرة اشعُرُ بالشجنِ... وفاة جديّ أحدثت شُرخاً في لوحةِ الذِكرَيات ... لا أتخَيلُ أن أجد دِكة جدّي التي ..كان يُقيم عليها من بَعد العصرِ إلى الغُروب خاوية . فجدّي هذا .........

جدّى

له ملامحٌ لا تُنسى ..... يَملك عيني طفل، ولحية شيخ وقور، وابتسامة ولىّ،وصوت كالهمس يُرهق أُذنيك إن لم تَقْترب منهُ حين يَتحدث .... عاش ما يربو على المائة عام، ولم يَنخَلع له سن .... كان يَعود إليه أهل القرية في نِزاعاتهم ..... مَنظَرة العائلة كثيراً ما يٌقام بِها ما يُسمّى بمجلس حق العرب، وهو مجلسٌَ يضُمُ زعماء القبائل، ويُنَصِبونَ من بينهِم قاضٍ ومستشارين .... والقاضي دائماً جدّي ... يرضى بحكمهِ الكبير والصغير .... كنت مصاحباً له على الدوام ...الطفلُ الوحيد بين المشايخ ... لم ينهرني على ذلك فلقد كان لين الطِباع على عكس جدتي ...التي كانت


جدّتي

عَصَبْيةُ المِزاج .. تَغضَب لأبسط الأسباب ... كثيراَ ما تَرفع صَوتها في وجه جدّي فيَقابلها بابتسامةٍ هادئةٍ ... اشعر بالخَجلِ من أجلهِ وبالحَنََّق عليها فيتحول إلىَّ بوجههِ الوضِّاء مبتسماً ، ويرفَع حاجبيه فأضّحكُ وأضّحكُ وأتأكد أنه يُسَيطرُ على الأمرِ ...جَدتي سمراء السِحنة ... قوية المَلامح .. واضحة اللهجة.. تتكلم بالأمثال دائماً عندما تُغضِبُها أختي الصغرى- وكثيراً ما يحدث – تَنْهَرها وهى تَنْظرُ إلى أمي قائلة (اِقلب القِدرة على فُمَّها تِطْلَع البنت لأمها ) فَتَشيح أمي بوجهها وكأن الأمر لا يَعنيها فلقد كانت أمي...............
أمي

مثال مُتَحرك للمرأةِ المُتَفَانيةُ لِبَيْتها لا يَشغلها إلا مطعَمُنا وملبَسُنا وراحة والدي في المُقام الأول تَخشى الحَسَد أشَد خِشية حتى أنها تُكَبِر في وجه أي أحد... تجدها في حديثها 
لا تنطق جملَتين إلا وتأمرك بالصلاة على النبي....أتذكر جارتنا حينما أتت إليها تُهنئها بنجاحي شَرعت بكفها في وجهها وهي تَزعُم أن أصابعها تؤلمها منذ الصَباح … حتى أنني شعرتُ بالخَجلِ من جارتنا التي أدركت مَقصِد أمي فكَبَرت وهللت وانصَرفت وهي تقول :- دخلنا عَليكم بالصلاة على النبي ...كثيراً ما نَصَحها أبي بترك هذا الطبع ولكن هيهات، فأبي مُطاع في كل شيء إلا مُعتقدات أمي الراسخة تقول حاضِر سوف افعل ولا تتغير؛ فأدرك أبى أنه لا نَفع من الكلام وأخرجها من رأسه واستراح …فأبى كان ....

(
يتبع)



انتبهت على صوت مكابح سيارتنا فلقد كاد أبى أن يصدم حماراً بٌنِياً يتبختر أمامنا دون راكب أو بردعة ….يبدو من بعيد كرجل فقد نِصْفه العلوي.... تَنفس أبى الصُّعَدَاء واستأنف القيادة رافضاً أن أتناوب القيادة معه فلقد كان حريصاً أشد حرص ....لا يَتَدخل فيما لا يعنيه مُطْلَقاً ….لا يَتَحَدث إلا إذا توجه إليه احد بالحديث ويُخْرِج كَلِمَاته مُغلَفة بِعبارات المُجَاملة التي أراها كثيراً ما تكون في غير موضعها …على النَقيض مَعنا لا يَترك ملاحظة إلا ويُبديها،ويكرر النُصْح في الموضوع الواحد حتى يْصِيبنا بالمَلل ولذلك أهاوده من أول جُملة حتى لا أُعاقِب أُذناي بالتكرار مراتٍ ومراتٍ ,وبالرُغم من ذلك لا أسلم من الترديد ..أما أختي تناطحه الحُجة بالحُجة حتى يضيق صدره فيأمرها أن تَنكَشِح من أمامه وهو يلعن أباها..فلقد كانت أختي....

أختي

لها رأس كالحجر لو حاورت سقراط لأرهقته؛ ولذلك لا تحب القرية حتى لا تصطدم بجدتي التي تتفحصها من أخمُِص قدميها حتى مَنبَت رأسها ،وتنتقد ملابسها التي هي مُحتَشِمة جداً بِمَنظُور أهل المدينة خليعة جداً بمقاييس جدتي ...فلا تُحب أن تراها بالسروال الجينز، وتوضّح لها أختي أنها ترتدي من النوع المُتَسِع وهناك الأُخريات من قريناتها اللائي يرتدين أنواعاً ضيقة ولكن هيهات أن تقتنع .....

في السيارة

انسل من ذكرياتي على صوت أمي يأتي من الخلف وهى تتلو آية الكرسي وتردد سلامٌ قول من ربٍ رحيم .....سلامٌ قول من ربٍ رحيم 
فأعلم أننا نَمر أمام أرض النعار وذاك النعار .......

النَعَار 

كان قاتلاً بالأجرِ ما يَقتِل من أحدٍ إلا ويدفنه في أرضه، فان اختفى احد من أهل القرية تعلم أن وراءه النعار، وعن سبب اتخاذه أرضه مدفناً لقتلاه تحكى عجائز القرية اللواتي عاصرن النعار.. أن هناك تعويذة تقي النعار القتل ولابد أن تُحاط بالجُثث حتى لا يَبطل مَفعولها وأرض النعار كان من المستحيل أن يجرؤ احد على دخولها ليلاً لأن تتمة الأسطورة أن العفاريت تجوس ليلاً مُطلِقة صرخات تخترق الحوائط الطينية للبيوت ،وتحكى النسوة عن يوم مقتل النعار وكيف انه كان يوم عيد للقرية يتذكره المعمرون وكنا نتندر- نحن الفتية- بهذه الخرافات في نوادينا وبالرغم من ذلك لا يستطيع احد إلى الآن أن يَدخُل ارض النعار ليلاً،ولم يُفَكِر احد في زراعتها أو الاستفادة منها ...فأكثر الساخرين من تِلك الحكايات لا يتجاسر أن يَخْطو خُطوة واحدة داخل ارض النعار ... قمة التناقض! وكيفما اتفق في كلِ الأساطير يوجد جانب الخير مثلماً يوجد جانب الشر والخير كان متمثلاً في قاتل النَعار ويُطلِق عليه مُعَمَرو القرية أبو شال



أبو شال

لا يعرف احد من هو أو من أين أتى، إلا أنه في إحدى الصباحات الصَحوة وَجَدوا جُثَة النعار مُلقاة على قارعةِ الطريق ، ويَحكى شُهود عيان عن احد المُلَثَمِين الذي شُوهد يَحمل جُثة النَعَار فوق حِصانه وألقاها وانطَلق يَنْهَب الأرض بجواده إلى أن اخْتَفى عن الأنْظَار ..توالى ظهور أبو شال ، وارتبط ظُهوره برفع الظلم عن المستضعفين من أبناء النجع...ومن أشهر القصص أن احد الباشاوات أراد أن يضم إلى أرضه عنوة فداناً يمتلكه احد الفلاحين... إلا وقد استيقظ وفوهة بندقية أبو شال مصوبة إلى رأسه مهدداً إياه لأن لم ينتهي فلن يمنع نفسه المرة القادمة من الضغط على الزناد، بل والأكثر يأمره بمنح فداناً إضافياً للفلاح المسكين ...اجتهد المتفيقهون من أهل النجع في معرفة شخصية أبو شال الحقيقية فاكتشفوا أن ظهوره تزامن مع اختفاء شاب يُدعى سالم الرماح ويصفه أصحاب المساطب بأنه 

سالم الرماح

شابا جلداً مات أبواه أثناء اجتياح هوجة الكوليرا للقرية، وبقى وحيداً يعطف عليه أهل القرية إلى أن أشتد عوده ،وسار يعلن في القرية انه سوف يقتل النعار ويريح أهل القرية من بطشه وإذا مات في سبيل ذلك فليس لديه من يبكيه ،وتحكى جدتي أن جدي حاول أن يثنيه عن ذلك فلقد كان صديقه الحميم، ولكن دون جدوى ...فلقد كانت عزيمته ماضية كالسيف.. بالرغم سماعي عن مدى العَلاقة التي كانت تربط بين جدي في فترة الصبا وسالم الرماح لم أشأ أن اسأله عن هذا الأمر حتى لا أذكره بصديق الطفولة .... إلى أن فاجئني وهو على فراش الموت يسألني 
-
هل تعرف كيف اكتسب أبو شال شجاعته ؟
لم أُرد أن أقول له تقصد سالم الرماح حتى لا اذكره بالموت وهو مريض فلقد اختفى سالم الرماح أو أبو شال كما يظن ذوى الفراسة من أهل القرية عن الظهور منذ زمن بعيد... بعيد.... ومن المؤكد أنه مات فأجبته بكلمة واحدة 
-
كيف ؟
فقال لي بصوت ارتفع على غير العادة إنه الوتد...


الوتد


يتبع

ليست هناك تعليقات: