السبت، 7 يوليو 2012

عبد السلام يمضى للأمام


إنه حقاً شارع عصري فإن الطابع الأوربي يغلب عليه والأبهة والفخامة هي إحدى السمات المميزة لهذا الشارع المزدحم بالسياح من مختلف البلدان , المعروضات تصدرت واجهات (البازارات) أشغال نحاسية تماثيل فرعونية رُصت بشكل هرمي متدرج ،الحوانيت حملت أسماء كتبت بالانجليزية ونادراً ما تجد كلمة بالعربية ،السياح يسيرون أفراد ومجموعات كل شيء يبدو منتظم متناسق حتى الإسفلت الأسود الفاحم يبدو كخلفية للوحة مبهرة تنبض بالحياة ...لا يقطع الأوتار في تلك (الاوركسترا) إلا منظر لطفل صغير رث الثوب شعره أشعث ملبد حافي القدمين مع ذلك لا يخلو وجهه من ابتسامة- كانت له السنتان الأماميتان كأسنان أرنب صغير- حسنا ها هو يتجول بين السياح بشكل عشوائي فوضوي كهيئته باسطاً كفه يشحذ كلمة واحدة يرددها (hello) ما يكاد يلقيها إلا ويبسط يده وتشرع الثانية في دعم الأولى بأن يربت بها على صدره في استعطاف ولا تملك العينان إلا أن تشاركان في الموقف من منطلق تعاون سائر أعضاء الجسد كان يستطيع أن يميز المصريين عن غيرهم والأكثر من ذلك  في استطاعته معرفة العملة ذات القيمة من بين ما تحويه كفه الصغير... انه يترقب السياح الوافدين إلى الشارع فإنها منطقة عمله، مرت لفحة باردة سرت على إثرها قشعريرة في بدنه النحيل ؛انكمش لها واضعاً كفيه على أذنيه نظر حوله تعجب من أن أحداً لم يتأثر بها اعتقد أنها أٌرسلت له دونهم دس يده داخل جيب جلبابه وقام بتحريك أصابعه كعازف بيانو ماهر حتى تجمعت في قبضته حصيلة يومه ما كانت إلا بضع عملات معدنية إنه يعلم أنها ليست ذات قيمة.... فلم يكن الحظ حليفه في هذا اليوم العقيم على الرغم من انه لم يدع سائحا يمر من غير أن يحاول استجداءه بشتى الطرق، كان من البراعة بحيث أنه من هيئة السائح كان يحدد الطريقة التي يتسول بها, فهذا بالطريقة المعتادة وذاك لا يجدِ معه سوى الإلحاح والزن على الأذن حتى يعطيه من دافع الزهق لا العطف وتلك يكفى أن ينظر إليها نظرة واحدة ..واحدة كانت تكفى ، نظرة تحمل معاناة الست سنوات التي هي عمره .....يُلقيها ويُطرق برأسه في خجل فتأتى إليه لتمنحه ما تجود به يداها كان مؤثر ...مؤثر للغاية !!ولكن لم تُجدِ هذه المؤثرات في هذا اليوم العقيم ، هل سيصدق أبوه ماسح الأحذية القابع بجوار المقهى الكبير أنه لم يتوانِ في عمله ؟ ..أم سيُعاقب بالضربِ أو الأكثر من ذلك وهو الحرمان من اللَّعب.
قرر أن يستأنف عمله تاركاً العُملات المعدنية تهوى في قاع جيبه محدثة رنيناً أحدث تواصلاً بين رنين الأفكار في ذهنه الشارد ، آمال رأسه كأنه يدعو الظنون أن تنساب عبر شعيرات رأسه ...
رأى أسرة تسير في مواجهته اتجه إليهم مهرولاً لكن تسمرت قدماه على الأرض الباردة حينما رأى بصحبتهم طفلة رائعة الجمال ذات عيون زرقاء بيضاء تكسو وجهها حمرة شعرها ذهبي منهدل على كتفيها ، بادرته بنظرة تعجب !.. وتفحصته من أعلى إلى ...وقبل أن تهبط بعينيها إلى أسفل ثنى من ركبتيه بشكل غير ملحوظ حتى يُطيل من جلبابه كي لا ترى قدميه العاريتين المتسختين..... ظل هكذا إلى أن مرت وشيعته بابتسامة اهتزت لها خلجات قلبه لم يدرِ ما هي القوة الخفية التي منعته من التقدم نحوهم واستعطافهم ، ربما حصل على شيء يُقَّوم به يومه المِعوَج ، ويساعده على استرضاء أبيه ، لكنه ليس لديه أدنى شعور بالأسف على ذلك ، بل يشعر بنشوة عارمة تجتاح كيانه ربما بسبب اكتشافه قدرته على اتخاذ قرار مخالف لما يحرض عليه الواقع المرير...إن بوسعه أن يعترض ..أو يمتنع إنها الرغبة الإرادة ، وكأنه اكتشف سر من أسرار الوجود الانسانى على الأرض ، انسحبت من رأسه هذه الخواطر حينما تذكر العصا القاطنة خلف باب دارهم المتهدم الأركان خلع عنه عباءة الأفكار وانتبه وكأنه استيقظ لتوه من نوم عميق .
لاحظ أن عدد المارين يتناقص والخارجين من الشارع أكثر من الوافدين إليه وأن بعض (البازارات) بدأت تغلق أبوابها وهذا يعنى أن أباه على وشك أن يأتي ليأخذه ليس بالضبط ليأخذه بل ليأخذ حصيلة يومه ويتركه يسعى ورآءه دون أن يكلف نفسه حتى النظر خلفه ... إنه يحفظ الأحداث جيداً يأتي ثم يقف على أول الشارع مطلاً بوجهه ذو الشارب الكبير حاملاً صندوقه الخشبي وينادى عليه بصوته الجهور (
ياد يا عبد السلام انت ياد)
كانت سرعة عبد السلام تتناسب طردياً مع حجم انتفاخ جيب جلبابه .
بينما يتجول ببصره رأى مجموعة من السياح مكونة من رجلين تتوسطهما امرأة كانوا على وشك الخروج من الشارع ، هرول إليهم إلى أن سار حذوهم وقال لهم بصوت طفولى ركيك
hello
ومد يده إليهم ، لفت انتباههم شكله وهيئته وطافوا حوله كأنهم يشاهدون منحوتة (سيريالية ) لنحات عالمي ؛ كان أحدهم يحمل آلة تصوير فقام بتصويره عدة صور وكلما أبرق ( فلاش ) آلة التصوير ينتشي الطفل فرحاً وكأنه أدرك أهميته لهم في سجلهم السياحي ، بعد أن التقط الرجل له عدة صور أخرج من جيبه عملة ورقية أعطاها له وانصرفوا عنه ملوحين بأيديهم قائلين
bye bye-
اخذ يقلب العملة بين يديه وكاد يطير فرحاً .. راجع العملات المدونة في بنك ذاكرته اكتشف انه لم يرِ مثلها من قبل وهذا سبباً ادعى لسروره فلأنه يجهل قيمتها ترك لخياله العنان في تحديد قيمتها التفتت خلفها السيدة التي تمشى معهم وابتسمت له ثم ما لبثت أن نظرت أمامها وأكملت المسير
لقد صار الشارع خالياً ،فحدثته نفسه أنه من الممكن الحصول على المزيد وتذكر ابتسامة السيدة له ، وضع العملة في جيبه واتجه إليهم يركض كان معهم خارطة للمدينة يهتدون بها فنظروا إلى الخارطة وتشاورا مسلكهم بينهم وانعرجوا يسارا فعرج الطفل على أثارهم واخذ في السعي إليهم إلى أن لحق بهم وتقدمهم بخطوتين وقال لهم بصوت متقطع منهك
- hello
نظروا إلى بعضهم وانهمكوا في الضحك وقامت السيدة من بينهم بإعطائه ورقة مالية ولكنها ورقة يعرفها جيداً ويعلم قيمها شعر بسعادة لكنها لا تعادل سعادته في المرة الأولى ود لو استطاع شكرهم على تدعيم موقفه أمام أبيه لكن كيف يشكرهم وهو لا يعرف من لغتهم غير كلمة واحدة حتى هذه الكلمة لا يعلم معناها هل هي كلمة رجاء أم اسم لشيء ما ,انه لا يتذكر متى تعلمها أو من علمه إياها كل الذي يعلمه انه قال hello) )قبل أن يقول أبى وأمي تفاعلت هذه الخواطر في ذهنه واستنتج انه من الممكن أن يتحكم في معناها من طريقة تلفظه بها فإن قالها بإنكسار فهى تذلل وان قالها بصرامة فهى أمر قرر أن يذهب إليهم ويقولها دون أن يمد يده بل سيعقد يديه خلف ظهره حتى لا تنفلت منه منبسطة وسينظر إليهم وفى عينيه علامات الامتنان ويقولها وينصرف حتى لو أرادوا إعطاءه شيء فلن يقبل
- بحث عنهم رآهم على منتهى بصره فأخذ يعدو إليهم في سرعة واضعاً طرف جلبابه بين أسنانه ولكنهم انعطفوا يمينا فتسرب اليأس إلى قلبه ولكنه أكمل اللحاق بهم وضاعف من جهده إلى أن عرج على آثارهم أبصرهم متوقفين أعلى الرصيف فتجدد لديه الأمل في أن يشكرهم ,ولكنهم أشاروا إلى سيارة أجرة بيضاء توقفت أمامهم وابتلعتهم سريعاً؛ فتوقف عن العدو وأخذ ينظر إلى السيارة إلى أن غاصت في الشريط الأسود للطريق فشعر بحزن يسيطر عليه ولكنه قام بإخراج العملتين من جيبه ونظر إليهما وابتسم ابتسامة أحدثت شروخا في مسحة الحزن التي كانت قد غلفت وجهه هم بالعودة فنظر عن يساره وعن يمينه لم يرِ شيئا مألوفا له من قبل دار حول نفسه دورة كاملة تأكد من خلالها Hنه ضل طريقه فترك العملات تهوى إلى الأرض وانهار على الرصيف المجاور يبكى وينتحب .

ليست هناك تعليقات: