الخميس، 8 يناير 2015

أحزان مبعثرة


لمَّ هذا الغراب الغبي اختارني أنا من بين مئات المارة ليُسقِط فضلاته على أم رأسي؟! قالت مديرة المدرسة: اليتيم يرفع يده..فرفعتُ يدي، فضمتني إلى الطابور البائس من يتامى التلاميذ، وسارت أمامنا كالبطة ونحن فرخاتها حتى مكتبها، منحتْ كل بائس قطعة من قماش "الكستور"..عدتُ لوالدي فرحًا بقطعة القماش، فلطمني  على وجهي وقال لي: تعفف، فلسنا بحاجةٍ لصدقةٍ من أحدٍ..يوم الاحتفال بعيد الأم بمدرستنا كنت أمرح وأضحك وأنا أشاهد فقرة الساحر والأراجوز..كنتُ حينها في الصف الثاني ..اصطدم بي تلميذ بدين من الصف السادس فوقعتُ على الأرض، وقمت عابسًا أنفض ملابسي وأبحث عن ابتسامتي وأشاهد، وقفت بجواري هناء الثرثارة  ونظرت لي وهى تقول : لمَّ تبدو حزينًا ؟
-       لستُ حزينًا.
-       ولكنك لا تبتسم
-       سأبتسم الآن..بل سأضحك
-       هل تذكرت أمك المتوفاة؟
-       لم أتذكر أحد..ها أنا أضحك مثلكم ههههههه... أترين أضحك بصوتٍ عالٍ هههههه.. أنا سعيد..سعيد جدًا
-       ولكن عينيك دامعتان
_ أبدا..لقد صدمني ولد من ال...
وقبل أن أكمل تركتني وفرت مسرعة إلى مُدرسة الألعاب لتقول لها: علاء يبكى أمه التي ماتت،
فجاءتني مدرسة الألعاب مهرولة، وكانت ناحلة فارعة الطول فلفتت انتباه كل المتواجدين بفناء المدرسة
_ لمّ أنت حزين يا علاء؟
وقبل أن انطق ضمتني لصدرها الضامر بقوة، فاصطدمت عيني اليمنى برأس سَحَّاب سترتها الرياضية، فرجعتُ برأسي للخلف ممسكًا عيني، فضمتني مرة أخرى وهى تقول : لا تبك يا حبيبي..لا تبك.. أنا مثل أمك
تجمع حولي التلاميذ والمدرسين، فانفجرت في نوبة بكاء هستيرية، لم أنس تلك اللحظة  مُطلقًا وكأنها حدثت أمس، أصابتني حُمى بعدها وظللتُ خمسة عشر يومًا طريح الفراش ، وعدت للمدرسة أتأتئ الحروف بعدما كنت أتحدث بطلاقة، لا أتأتئ عند القراءة من كتاب المدرسة..ولكن ما دون ذلك تخرج الكلمات بصعوبة، وكأن لساني يقتلع الحروف من بحر للرمال، كم اكره تلك المدرسة بتلاميذها ومدرسيها ومديرتها البدينة، أكره بابها وحوائطها ومقاعدها وسبورتها السوداء كأيامي بها فقد قضيت بها سنوات من العزلة وألم المعدة الزائر اليومي لي كل صباح ما عدا أيام العطلات..فكلها عندي أعياد..كانت لدي  أجوبة لأغلب ما يطرحه المعلمون علينا، ولكني أخاف سخريتهم من طريقتي فى الكلام فابتلع لساني وحزني وانكمش فى زاويتي آخر الفصل، نجاحي بتفوق فى المرحلة الابتدائية كان لا يعني انتقالي لمدرسة أخرى فلقد كانت بها مرحلتان ابتدائي وإعدادي ..لذا ألححت على والدي أن ينقلني لمدرسة أخري، أقرب مدرسة إعدادية كانت تبعد عن البيت مسافة ثلاث محطات، ولكن حتى لو سرتُ لساعتين كل يوم أهون عندي أن أظل في تلك المدرسة..وبعد إلحاحٍ وعويل وافق والدي، وتم نقلي..كان أول يوم لي بمدرستي الجديدة ..وجوه جافة صلبة، لم أتحدث لأحد طوال اليوم، انزويت في ركن قصي في آخر الفصل أتواري بتأتأتي..دخل مدرس الرياضيات وألقى السلام علينا..يا الله إنه تأتأ مثلي وهو يلقى السلام..ربما كانت عثرة عابرة للسانه..لا ليست كذلك ..ها هو يَشرح الدرس ويتأتئ، والطلبة يغالبون رغبتهم في الضحك..ولكني كنت سعيدًا..سعيدًا جدًا..قلبي يكاد يقفز فرحًا..فربما لن أخجل من تأتأتي بعد ذلك ..فمدرسنا المحترم هو أيضًايتأتئ مثلي..تمنيت حينها أن ألكم كل طالب يتغامز عليه فى وجهه ..تمنيت أن أقف فى وسط الفصل وأصرخ فيهم  :هذا مدرسكم وجب عليكم احترامه حتى لو كان يتأتئ ..خط مسألة سهلة على السبورة وقال: من يس يس يستطيع حل حل حلها..رفعت يدي ..بل رفعت ذراعي بحماس وقفت على أطراف أصابعي ليراني..أشار لي أن أخرج ..فخرجت فقال: امممسك الطبش ششور ..ولككن ع عرف ا اسمك أو أولا فقلتُ مبتسمًا: اس سمي عا عا علاء اد اد الدين، فقام من مكانه ولطمني على وجهي بشدة. لم أفهم لمّ فعل ذلك..إلا حين قال وقد زادت تأتأته : أتس أتسخر من مني؟!..انهمر التلاميذ في الضحك..أردت أن أقول له : أنا مثلك..أشعر بك..ولكن كلما أردت الكلام كان يظن أنني أتمادي في السخرية منه، ويزيد في ضربي ..حتى نزفت شفتي السفلى..عدتُ مكاني صامتًا، وسأظل صامتا للأبد، فالحروف المتكدسة بحلقي أبت الخروج، ولو حتى متقطعة.

ليست هناك تعليقات: