الثلاثاء، 22 مايو 2012

بائع الكتب




(يحب الكتب... ويحب الشاي... ويحب الأطفال ...ويكره الصحف اليومية)
جالساً على السور المنخفض المحيط بالمسجد الكبير متكئا بظهره على السياج الحديدي يرمى ببصره بين الحين والحين على كتبه القديمة المتراصة أعلى الرصيف إنه عبد المنعم بائع الكتب بحي مصر القديمة بمبانيه العتيقة وهواءه المحمل بعبق التاريخ كأنه يهب من كتب الأساطير . فى عينيه بريق هو أول ما يشد انتباهك عند النظر لوجهه الأسمر ....جاوز الخمسين ببضع سنوات أقرب إلى القصر من الطول ...عندما يسير تستطيع أن تجزم أنه يبحث عن شيء مفقود يلبس سترة رمادية أكل الدهر عليها وشرب وسروالاً متسعا يشده على وسطه بحبل من الكتان . ينتهي من كوب الشاي وينهض من خلف عم عطا القابع أمام الوابور المستقر فى جوف صفيحة مفرغة من جانب واحد على يمينه قفص مقلوب عليه بعض الأكواب ووعاء من الصفيح بداخله السكر وعلبة من البلاستيك للشاي وكنكة بدون يد يسير عم عبد المنعم إلى أن يجلس أمام كتبه المهملة على مسافة عشر خطوات من عم عطا بائع الشاي يقضى يومه أمام كتبه ذات الصفحات الصفراء وكأن قد فُرغ عليها برميلا ًمن الشاي ولم توضع على الرصيف إلا لتجف تحت أشعة الشمس كل ثروته تلك الكتب القليلة التي لم يكن على أكثرها غلاف بل وفقدت العديد من صفحاتها ونادراً ما تجد كتاباً مكتملاً فيصنع له غلافا من الورق الأبيض ويلصقه على جانبي الكتاب بعجينة النشاء ويكتب عليه اسما من تأليفه فهذا كتاب يتكلم عن الفلسفة قرأ منه بعض الوريقات فلم يفهم منه شيئا فأغلقه وكتب على غلافه بخط كبير ( الساقية) وذلك الكتاب يدور عن اشتراكية رأس المال والتوزيع قرأه وظن أنه استوعبه تماماً فكتب على غلافه بخط متموج (إفتح يا سمسم ) وهذا الكتاب وذاك وما أغرب العناوين التي لا تتصل بالمضمون إلا من خلال رؤيته كان يشعر بمتعة وهو يسجل عنوانا لكتاب ما بل إنه كان يطالع كتاباً يعتقد أن عنوانه لا يتناسب مع محتواه فينزع غلافه ويلصق عليه ورقة بيضاء يكتب عليها اسماً مبتكرا ويراوده شعور انه ذو فضل على مؤلفه الذي غالباً يكون رحل فالكتب قديمة... قديمة منذ سنين تجده فى هذا المكان فى كل الأيام ما عدا يوم الجمعة يمنح لنفسه إجازة وإذا توافرت لديه بعض الجنيهات يذهب إلى سوق (الإمام ) بالقلعة ليشترى بعض الكتب من تجار الخردة بالكيلو لا يصلى لكنه حريص على تأدية فريضة الجمعة فيرتدى فى هذا اليوم جلباباً أقرب إلى البياض أهدى إليه من رجل لا يعرفه ويذهب إلى المسجد قبل الآذان بساعة يتأمل النقوش أعلى سقف صحن المسجد وكأنه خبير تراث إسلامي أما فى الأيام العادية فيومه يمر بين كتبه وعم عطا يشرب الشاي ويشكو إليه أن لا احد يشترى كتبا والحالة صعبة فيشكوا عم عطا أن المقاهي قد انتشرت والناس يخجلون من شرب الشاي على الرصيف ولولا بعض زبائنه من الباعة الجائلين لمات جوعاً هو وزوجته وأولاده فيقلب عبد المنعم فى جيوبه ويخرج ربع جنيه يمنحه له وينصرف إلى كتبه حتى يسمع آذان المغرب فيلملم كتبه فوق بعضها فى حرص ويودعها بعناية داخل كرتونه يحملها بين يديه ويعبر الشارع إلى الرصيف المقابل الذي يُطل على النيل يهبط إلى احد المشاتل المهجورة يضع كرتونته خلف التل الترابي ويفترش حصيرة مهترئة ويقرفص فى قطعة قد انحسرت عنها المياه مساحتها لا تزيد على متر فى متر ونصف يحاول أن ينام لكن أحلام اليقظة تحاصره كحصار ماء النيل له يخطط لمشاريع مستقبلية كأن يشترى من سوق الإمام بعض الحقائب الجلدية القديمة ويصلحها ويبيعها بربح مضاعف ويستمر فى تطوير هذا المشروع أو هذا الحلم إلى أن يصبح صاحب مصنع حقائب بالمنطقة الصناعية....أو يشترى جرواً من النوع الذي يصلح للحراسة يربيه ويروضه ليبيعه بأضعاف ثمنه ثم يشترى عددا أكبر ثم...ثم يقطع هذا الحُلم متحسساً مؤخرته و يتذكر انه يخشى الكلاب منذ الصغر وهكذا ألف مشروع فى الرأس وبالكاد يجد قوت يومه يغالبه النوم فيشد عليه غطاءه القصير ويتكور حتى تكاد ركبتاه أن تلامسا أسنانه ويغط فى نوم عميق فى صباح اليوم التالي يستيقظ ويضرب وجهه بماء النيل ويلف فراشه أسفل التل الترابي ويضع فوقه بعض فروع الأشجار ويحمل كرتونته ويصعد إلى حافة الطريق يعبر الشارع إلى موقعه يفترش كتبه ككل يوم أمس كاليوم واليوم كأمس يتعايش من بضع الجنيهات التي يبيع بها الكتب أو التي يجود بها عليه بعض الناس رحماء القلب وعندما يضيق به الحال يذهب إلى الحاج منصور صاحب مكتبة بالسيدة زينب ينظف له مكتبته ويعيد ترتيب الكتب بعد إزالة الغبار من عليها ويعود بعد أن يحظى بما يساعده على المأكل وشرب الشاي ...عرض عليه الحاج منصور كثيراً أن يعمل معه فى المكتبة ويمنحه خمسة جنيهات كل يوم ولكنه كان يرفض لأنه لا يريد أن يعمل عند احد ولو حتى الحاج منصور الرجل الطيب مع أن الخمس
ة جنيهات تمثل له الكثير فكثيرا تمر عليه أيام وأيام دون أن يكتمل فى جيبه جنيه صحيح فانه لا يحب القيود ويعتقد أن عمله مع الحاج منصور سوف يعيقه عن الترتيب لمشاريعه المستقبلية.. وما أكثرها!لا احد يعلم عن ماضيه شيء سوى أنه كان مع من حاربوا فى أكتوبر 73 وأنه أتى من الغربية وأستقر فى القاهرة بعد الحرب وعمل فترة فى مجلس الحي بمصر القديمة ولكنه أنقطع عن العمل دون أسباب ولا احد يفكر أن يسأله عن ماضيه ربما لأنه لا يعنيهم أمره من الممكن أن يحكى لك عن الحرب ويقول انه كان فى سلاح المشاة وانه من أول عشرة عبروا القناة وكيف رأى القارب المطاطي يتطاير قطعاً بجنوده فى الهواء من جراء القذف المدفعي ويقسم لك انه ما زال يقشعر جسده كلما تذكر تلك اللحظات وكأنها كانت بالأمس ثم يستمر يحكى ما بعد الحرب ويشير إلى إذنه وهو يقول انه ما زال يسمع دوىّ القنابل وأزيز الطائرات إلى ألان وإذا شدك حديثه وسألته عن قبل الحرب كيف كنت ؟ تجده أيضاً يحكى لك عن الحرب وما بعد الحرب وكأنه لم يسمعك ولكن تتغير نبرة صوته وتشعر انه يقاوم رغبة شديدة فى البكاء مما يجعل لديك رغبة اشد فى الانصراف من أمامه يمر من أمامه طلبة المدرسة الثانوية التجارية كل يوم يتغامزون عليه فيتناول احدهم كتابا يتصفحه ويقول لزميله فى سيناريو متفق عليها وهو يشير إلى إحدى صفحات الكتاب
- لا افهم هذا المقطع فيهب عبد المنعم من مكانه ويتناول الكتاب من يده وينظر إلى الصفحة المشار إليها ويأخذ فى شرح ما أراد أن يقول الكاتب شرحاً تفصيلياً ويحاول الطلبة أن يكتموا ضحكاتهم ويستمر فى الشرح والإسهاب فى حين يكون الطلبة انصرفوا من أمامه متضاحكين... فيضع الكتاب ويعود إلى مكانه يرقب المارة ينظر إلى الرصيف المقابل على الكورنيش يجد فتى وفتاة يتهامسان حتى تكاد شفتاه تلامسان أذنها بالرغم من أن لا احد بجوارهم فيلعن الأيام والزمان ويخبط كفا بكف ويتجه إلى عم عطا يطلب منه كوب شاي لان المزاج قد تعكر
- الناس تغيرت يا عم عطا
- هييييه ...يا عبد المنعم سبحانه الواحد لا يتغير ( ثم يصمت قليلا ويضيف ) وليه متتغيرش انته كمان؟
- قصدك إيه ؟
- توسع من رزقك
- ازاى يعنى ؟
- تبيع لك شوية جرايد على شوية مجلات جنب الكتب اللي مش جايبه همها
- انته عارف رايى كويس فى الموضوع ده
...كان يتكلم بجدية ووجهه غاضب فلم يتشجع عم عطا أن يستكمل حديثه واستمر عبد المنعم فى مراقبة المارة وهو ممسكا كوب الشاي بين كفيه...ولكن......ولكن تماما مثلما تسقط نقطة ماء فوق زيت ساخن سقطت عليه تلك الكلمة
- البلدية.....البلدية...البلدية يا عبد المنعم البلدية يا عطا!! كان مجرد سماع تلك الكلمة يجعل الكهرباء تسرى فى جسده فترك كوب الشاي يهوى إلى الأرض واتجه إلى كتبه مهرولاً وقد عاد إلى إذنيه صوت القنابل وأزيز الطائرات واخذ يقذف بالكتب فى سرعة داخل الكرتونة وصفحات الكتب الصفراء تحوم حوله إلى أن ملأ كرتونته وقد انتصب شعر رأسه خوفا فحملها بين يديه واندفع فى جنون يعبر الشارع ويتلفت حوله وقد ارتفع فى اذنه صوت أزيز الطائرات ودوى القنابل ...السيارات منطلقة بسرعة متلاحقة ودوى القنابل يرتفع السيارات تقترب أزيز الطائرات يملأ أذنيه السيارات تقترب تتحول إلى دبابات دوى القنابل يرتفع....يرتفع.....ير...ثم .....ثم.. يهدأ كل شيء
.
(كان يحب الكتب.. ويحب الشاي.. ويحب الأطفال.. ويكره الصحف اليومية)


ليست هناك تعليقات: